حديث جلالة الملك الى وكالة الأنباء الأردنية بمناسبة عيد ميلاده التاسع والخمسين قوبل باهتمام بالغ. فقد حرك الموضوع الهام والمسكوت عنه لسنوات طويلة وهو موضوع الإصلاح السياسي، الذي كانت تتجاهله الحكومات المتعاقبة وتقاومه قوى الشد العكسي. فقد أكد الملك في حديثه أولوية الإصلاح السياسي والدعوة لإعادة النظر بقوانين الانتخاب والأحزاب والإدارة، بهدف تعزيز المشاركة للأحزاب السياسية والشباب في صياغة قضايا الشأن العام. ولا شك أن مدخل الإصلاح السياسي من خلال هذه القوانين إشارة حكيمة لتلمس الاعتراضات الكثيرة والمستمرة على هذه القوانين وتأثيرها في تعميق الخلل الذي انتاب الحياة السياسية في البلاد، واستجابة في ذات الوقت لمطالب القوى الوطنية المستمرة بضرورة إعادة النظر بها. فقد لعب قانون الانتخاب بشكل خاص دوراً أساسياً في انتكاسة الانعطافة الديمقراطية النسبية التي تشكلت في البلاد بعد هبة نيسان عام 1986 والتي جرت بعدها أول انتخابات برلمانية بعد مرحلة الأحكام العرفية نجحت خلالها بعض الأحزاب الوطنية والتي شكلت كتلة وطنية داخل البرلمان تستند الى تأييد شعبي واسع على نطاق البلاد.
بعد انتخابات عام 1989 جرب الأردن عدداً من القوانين في مقدمتها قانون الصوت الواحد المجزوء ثم تلاه مجموعة من القوانين والتي بقيت تستند بشكل عام على قاعدة الصوت الواحد رغم التسميات المتعددة لها، بما في ذلك قانون القائمة النسبية المفتوحة والتي لم ينجح سوى شخص واحد بالغالبية الساحقة لهذه القوائم. لقد فشلت هذه القوانين في إيصال ممثلي الأحزاب الى البرلمان الا في حالات محدودة جداً وتستند غالبيتها الى ثقل عشائري، كما ساهمت في فسح المجال لمزيد من حالات مصادرة الحريات العامة وتشديد حالات الاضطهاد العامة في البلاد، وتخريب المناخ السياسي بشكل عام. وقد ساهم التراجع المستمر في الحياة السياسية بسبب قانون الانتخاب وغياب برلمان حقيقي يمارس صلاحياته الدستورية في اضعاف الثقة بين الحاكم والمحكوم وفي تخفيض أهمية البرلمان في الحياة العامة الأمر الذي عمق ضعف المشاركة السياسية في البلاد وقاد الى تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات، حيث بلغت 29 % في الانتخابات الأخيرة رغم دور المال الأسود ومختلف أشكال التلاعب والتدخل الأخرى التي كانت مجال الشكوى والاعتراض.
ازدادت المطالبة بإعادة النظر في قانون الانتخاب عند الإعلان عن اجراء الانتخابات الأخيرة، وتمترست قوى الشد العكسي بقانون الانتخاب وكان ردها بأنه لا توجد صيغة مثلى للقانون، وأي صيغة لها إيجابيات وسلبيات، وبالتالي لا بد من اجراء الانتخابات بموجب القانون النافذ، إلا أن هذه الانتخابات جرت في ظرف استثنائي معقد، حيث تعاني البلاد من أزمة مركبة مزمنة وجاءت جائحة كورونا لتعمقها وتزيدها خطورة من جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يتطلب أوسع تكاتف شعبي وأوسع وحدة وطنية لمواجهة مخاطر ومتطلبات المرحلة.
ويبدو جلياً أنه لا يمكن مواجهة المصاعب السياسية والاقتصادية التي تحيط بالوطن الا بإجراء اصلاح سياسي شامل مدخله الرئيسي قانون انتخاب ديمقراطي يساهم في تنمية الحياة السياسية والحزبية ويوفر مناخاً مؤاتياً لتعبئة الجماهير الشعبية للمساهمة في القرار السياسي وفي الصمود امام الصعوبات والتحديات الداخلية والخارجية.
واذا كان المدخل الأهم لتنمية الحياة السياسية هو قانون انتخاب ديمقراطي يسمح بتمثيل حقيقي للشعب، فانه لا بد من توفر مناخ ضروري لنشاط الأحزاب الوطنية البرامجية ذات الأهداف السياسية والاقتصادية الواضحة، وتوفير الفرص لوصولها الى البرلمان ووضع الحواجز امام جميع المحاولات التي تحول دون ذلك. وهذا يتطلب تعزيز الحريات الديمقراطية والالتزام بالنصوص الدستورية التي تعلن أن الشعب مصدر السلطات وتؤكد على مبدأ الفصل بين السلطات وتطلق الحريات العامة وخاصة حرية التعبير وحرية التجمع والتنظيم الحزبي والنقابي وتشكيل الجمعيات. وهذا يفترض اعادة النظر بقانون الاحزاب مع ضرورة إيقاف الضغوط التي تتعرض لها الأحزاب من النواحي الأمنية والاجرائية ووضع حد للتدخل الفظ في شؤونها الداخلية.
إن تحقيق التنمية الشاملة السياسية والاقتصادية تتطلب في المقام الأول اصلاحاً سياسياً والذي بدونه لا يمكن اجراء اصلاح اقتصادي وتغيير النهج الاقتصادي الذي أدى الى المصاعب العديدة في الحياة الاقتصادية. ولتحقيق هذه المتطلبات الضرورية لمواجهة المرحلة الحرجة الحالية والاستجابة الى دعوة الملك فلا بد من اشراك مختلف القوى السياسية والاجتماعية والحزبية في تحقيق ذلك. وهذا يتطلب عقد مؤتمر وطني تشارك فيه مختلف القوى السياسية والاقتصادية والفكرية على مختلف ميولها واتجاهاتها لرسم خطة وطنية شاملة بهذا الخصوص. وللأردن تجارب معروفة بهذا الخصوص. مع عدم السماح لقوى الشد العكسي أن تلتف على تحقيق هذا الهدف كما جرى عدة مرات سابقا، ووضع حد للتدخلات والضغوطات المكشوفة على الأحزاب رغم دعوة الملك لإصلاح قانون الأحزاب.