بقلم: مراد علالة
تحت عنوان «لترحل منظومة الحكم»، عقدت «المبادرة الوطنية لتصحيح مسار الثورة» ندوة صحفية يوم الجمعة المنقضي شاركت فيها مجموعة من الأحزاب السياسية التقدمية والمنظمات الوطنية والشخصيات اليسارية المستقلة وهي المرة الأولى منذ انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي التي تظهر فيها وجوه يسارية جنبا الى جنب في العلن وتتحدث حول نفس الموضوع.
ومثلما تابع الكثيرون فإن وقائع الندوة الصحفية سجّلت حضور حمة الهمامي وعبيد البريكي ويوسف الشارني ومحمد الكحلاوي ونجلاء كدية في المنصة والحال أن اسمين على الاقل (الهمامي والبريكي) كانا خصمين إن جاز القول في السباق الرئاسي الأخير وحتى التشريعي فيما غاب ممثلو كيانات أخرى مثل التيار الشعبي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وحزب الطليعة الذين جمعتهم بالبقية تجربة «الجبهة الشعبية» وما أسميناها «عهدة الدم» بين 2012 و2019. وقد قيل قبل الندوة وأثناءها وبعدها أن «المبادرة الوطنية لتصحيح مسار الثورة» جاءت كثمار نقاش جدي عميق وموجه منذ شهر مارس المنقضي بالتزامن مع استفحال الموجة الاولى من جائحة كورونا وكان هدفها كما يقول الناشط علي بن جدو «تشكيل قطب أو خيار سياسي اجتماعي يساري واسع يملأ الفراغ الذي استجد على الساحة السياسية بعد انتخابات 2019 وما أفرزته من منظومة حكم فاسدة تتحكم فيها وتشغلها تعبيرات سياسية طبقية مافيوزية وإسلامية فاقدة للانتماء الوطني ومرتبطة بمحاور إقليمية رجعية وبمراكز النفوذ الاقتصادي/المالي الاستعماري».
الأهم من هذا التعريف أو التقديم هو تكرار مقولة انفتاح المبادرة على جميع القوى اليسارية دون استثناء والتي يمكن ان تلتقي حول الحد الأدنى الذي يسمح بالعمل الجماعي الذي تمليه اللحظة الراهنة مع ضرورة استخلاص الدروس حتى لا تتكرر النهاية «الدرامية» لتجربة الجبهة الشعبية رغم قول البعض أن نهايتها كانت طبيعية وفق التجارب المقارنة.
إن الندوة الصحفية وبقطع النظر عمّا سيليها في قادم الايام والذي يظل مرتبطا ايضا بإرادة وافعال أصحابها والتحامهم بالجماهير وانخراط الطيف اليساري الواسع فيها بناء على مصالحة هي قدر حتمي وليست خيارا في تقديرنا، تمثل محطة مهمة وتطرح من جديد سؤال وجود اليسار في بلادنا ودوره في تجربة الانتقال الديمقراطي والمسار الثوري أو «الملحمة التي لم تكتمل».
انه لا يمكن القفز على حقيقة أن القاصي والداني في الداخل والخارج ما انفك يسأل عن اليسار وعن أوضاعه بل عن وجوده اصلا بعد أن فقد موقعه في المشهد السياسي والبرلماني والنقابي وحتى في استطلاعات الراي، لكن تكرار السؤال في الشارع التونسي وخصوصا في أوساط خصوم وأعداء اليسار يؤكد أن «اليسار خير لا بد منه» لأن الطبقات المفقرّة والفئات المهمشة تستجير به وتستفسر عن غيابه عندما تضيق بها الخيارات كما هو الحال اليوم.
ثانيا، إن منظومة الحكم القائمة بتعدد مكوناتها واختلاف مسمياتها تحمل في النهاية نفس المشروع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وليس أدل على ذلك من ميزانية الدولة المصادق عليها في مجلس نواب الشعب قبل ايام بتحفيز من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان بذريعة اجتناب المأزق الدستوري في حال عدم المصادقة، وها هي الاغلبية البرلمانية تهنئ التونسيين بهذه الميزانية التي تكرّس الخيارات الاقتصادية الليبرالية وتغرق البلاد في مستنقع متجدّد من الديون الى جانب تكريس عدم الاستقرار بالحديث عن قانون مالية تعديلي في الربيع القادم وتلميحات بتحويرات في الفريق الحكومي وفي التعيينات القادمة في مفاصل الدولة..
ثالثا، لقد برزت بالفعل قوى سياسية أخرى «وسطية» و«اجتماعية ديمقراطية» لكن انخراطها في منظومة الحكم ولو بشكل مؤقت ظرفي كشف انها لا تتمايز كثيرا عن هوية حكام تونس الجدد منذ 2011 في علاقة بالأطروحات الاقتصادية والاجتماعية وقد أضرت بها تجربة المرور بالقصبة وبعثرت حساباتها. أما العائلة الدستورية ورغم النقاط التي يسجلها من يوم إلى آخر الحزب الدستوري الحر في المشهد السياسي، فإن برنامج هذا الحزب ايضا وخياراته وماضيه يضاعف من مسؤولية اليسار في البرهنة على وجوده أو الاندثار خصوصا وان جانبا من المعارك الفكرية والثقافية التي يجرؤ عليها هذا الحزب هي في النهاية مهام القوى الحداثية بشكل عام من قبيل الدفاع عن مدنية الدولة وقيم الجمهورية ومكاسب المرأة وغيرها..
رابعا، لقد آن الأوان لفك الارتباط بالنقابة في تقديرنا والفصل بين النضال تحت السقف المطلبي النقابي الاجتماعي والوطني الذي كان ضروريا زمن الاستبداد لغياب العمل السياسي العلني والقانوني اما اليوم فلا مناص من التخصص ومن تحمل المسؤوليات.
خامسا، إن النقاط التي تطرحها «المبادرة الوطنية لتصحيح مسار الثورة» هي في النهاية بديل سياسي يتلخص في رحيل منظومة الحكم بكل مؤسساتها واتخاذ إجراءات اقتصادية واجتماعية شعبية في مضمونها الطبقي والوطني مرتبطة بالسيادة الوطنية وبالعدالة الاجتماعية وبحماية وتأمين الحريات وهذا مشترك بين الطيف اليساري الواسع والتاريخي الذي أعطى دماءه الثمينة للبلاد وآخر شهدائه شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي وهو مشترك لا تطرحه ولا تتحمله بقية المكونات السياسية سواء منها الماسكة بالحكم أو المتحدثة اليوم باسم المعارضة.
إن الظرف والرهان والتحديات يسارية بامتياز ومصير اليسار بيد اليساريين الذين حضروا الندوة الصحفية أو الذين لم يحضروها والذين لا خيار لهم سوى «تصحيح مسارهم» أولا لـ«تصحيح مسار الثورة» ثانيا.