تتفرد الانتخابات للمجلس النيابي التاسع عشر عن سواها من الانتخابات التي جرت للمجالس النيابية السابقة بتعقيدات تفرضها جائحة كورونا تضفي على المشهد الانتخابي أجواء غير مألوفة لا أحد يملك على وجه اليقين تقديراً حقيقياً لمدى التأثير الذي ستتركه على سير العملية الانتخابية، وخاصة على تمكين المرشحين الجادين، وبصفة خاصة مرشحي الأحزاب السياسية من التواصل مع ناخبيهم، ومن عرض برامجهم الانتخابية على أوسع قاعدة شعبية مع مراعاة البروتوكولات الصحية، ومنها التباعد الجسدي ومحدودية العدد الذي يسمح بتواجده في اللقاءات الانتخابية.
وحتى لو تمكنت الأحزاب من إعداد تطبيقات على مواقع التواصل الاجتماعي لعرض برامجها الانتخابية، فان هذ التطبيقات لن تغني عن التواصل والحوار المباشرين مع الناخبين، وخاصة أن هناك قطاعاً من هؤلاء الناخبين لا يتعاطى مع مواقع التواصل الاجتماعي وليس لديه أدنى فكرة عن كيفية استخدامها والتعامل معها.
كما أن أحداً لا يستطيع التكهن منذ الآن الى أي مدى ستكون الإجراءات التي سيتم العمل بها في يوم الاقتراع سلسة، ولا يحتاج الناخب الى الانتظار فترة طويلة للإدلاء بصوته. وإذا ما تبين ان الإجراءات معقدة وتستغرق وقتاً طويلاً، فان هذا الوضع سيؤدي الى عزوف المترددين أصلاً عن التوجه الى مراكز الاقتراع، وسيضعف من حجم المشاركة في عملية الاقتراع.
هذه المخاوف تثار ليس من قبيل التشكيك في دقة ومصداقية الاستعدادات التي تتحدث عنها الهيئة المستقلة للانتخابات، بل انطلاقاً من غياب سابقة، تم خلالها امتحان مدى نجاعة الإجراءات التي سيتم تطبيقها، ومن الخشية في أن الإصرار على اجراء الانتخابات، رغم الظروف الوبائية، يدفع الهيئة المستقلة للمبالغة في قدراتها على تطبيق السيناريوهات الموضوعة، والتي قد لا تلحظ تطور الحالة الوبائية، ومدى ما ستتركه من تأثيرات سلبية على النفسية الاجتماعية وعلى استعدادات الناس لحضور اللقاءات الانتخابية ولممارسة حقهم وواجبهم في الاقتراع بعد الاطلاع على برامج المرشحين، لا سيما مرشحي الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية المستقلة، الذين يخوضون الانتخابات انطلاقاً من خلفية سياسية بعيدة عن أي اعتبارات عشائرية أو فئوية أو جهوية. وبالتالي فان رهان هؤلاء المرشحين هو على استنهاض حالة شعبية تدعم البرنامج الذي يخوضون الانتخابات على أساسه، والذي سيتم الالتزام به في حال فوزهم ووصولهم الى البرلمان بفضل الدعم الواسع من مختلف الفئات الاجتماعية الشعبية التي تراجعت ثقتها في قدرة المجلس النيابي على تجسيد مصالحها والدفاع عن حقوقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ندرك أن الطريق المفضي لاستنهاض حالة شعبية قادرة على إيصال مرشحين ملتزمين جدياً بمصالح شعبنا الأردني، لا سيما طبقاته وشرائحه وفئاته الاجتماعية الكادحة والفقيرة والمهمشة، لا زال غير معبد وتعترضه العديد من العوائق التي يحتاج اجتيازها لجهود جماعية كبيرة قد لا تمتلكها الأحزاب اليسارية والقومية التي أعلنت مجتمعة عن نيتها في خوض الانتخابات.
وهذه العوائق لا تتعلق فقط بقانون الانتخابات ولا بالأجواء السياسية غير المواتية المتولدة عن نهج السلطة واجراءاتها، وخاصة مواصلة سياسة التضييق على الحريات الديمقراطية والعامة، والتوسع في تطبيق أوامر الدفاع وفي استخدام قانون الجرائم الالكترونية لخنق حرية التعبير عن الرأي، وتعطيل حق أساسي للناس في انتقاد السياسات العامة بقصد الكشف عن مواطن القصور والاخطاء ومطالبة المسؤولين وحثهم على تصويبها، بل تتعلق هذه العوائق أيضاً، وبالإضافة الى ما ذكر، بقيام قوى وشخصيات سياسية ومثقفين ينتمون الى التيار اليساري – القومي العريض بشن حملة إعلامية لمقاطعة الانتخابات وتوجيه اتهامات ظالمة للأحزاب اليسارية والقومية من دون الأخذ بالاعتبار أن هذه الحملة لا تخدم سوى القوى والدوائر التي تعمل على اقصاء أحزاب وقوى وشخصيات المعارضة الوطنية عن البرلمان، وتسّهل على مرشحيها – هذه القوى والدوائر – خوض الانتخابات دون منافسة حقيقية وجدية، مع مرشحين ملتزمين بالبرنامج البديل.
ويغيب عن بال الداعين للمقاطعة أن عزوفهم عن المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً والاكتفاء بالمتابعة والمراقبة وبالنأي عن المشاركة الفاعلة والمؤثرة في ظل غياب آلية كفاحية بديلة عن خوض النضال لتعميق الوعي بالبرنامج البديل، وزيادة الالتفاف الشعبي حوله، والعمل بصيغة عملية على تعديل موازين القوى بين التحالف الطبقي الحاكم والتحالف الشعبي قيد التشكيل، مثل هذا الموقف لا يعدو كونه ضرباً من ضروب العدمية السياسية التي لم تكن يوماً واردة في قاموس التيارات اليسارية المنخرطة قولاً وفعلاً في عملية التغيير الجذري والشامل.
لقد شارك حزبنا الشيوعي في انتخابات جرت في مطلع الخمسينات في ظروف سياسية أكثر قساوة، وخاضها رغم كل التوقعات بأن الحكومة ستلجأ الى التزوير. وعندما زُورت الانتخابات لم يتوان عن النزول الى الشارع وفضح عملية التزوير والدعوة الى حل البرلمان المزور والمطالبة بانتخابات جديدة…ونجح.
ليس لدينا أي مبالغة في تقدير امكاناتنا وقدراتنا. وفي تقديرنا أنه حتى لو تم تحقيق أوسع التفات سياسي حول مرشحي الأحزاب والقوى والشخصيات اليسارية والقومية، فانها بالكاد تستطيع استنهاض قطاع من الجماهير الشعبية التي تعاني اقسام ليست قليلة منها الإحباط واليأس من إمكانية التغيير عبر الانتخابات، وتزعزت قناعتها بالديمقراطية وباتت أكثر ميلاً لتقبل الشعارات الشعبوية.
فما بالك إذا انحازت شريحة من المثقفين والسياسيين اليساريين والقوميين الى فئة الداعين والمروجين والمسوقين لمقاطعة الانتخابات.
والأخطر من كل ذلك، أنه في حين تستطيع القوى القريبة من السلطة، والتيار الإسلامي والقوى العشائرية والفئوية والجهوية من حشد جل قواها وامكاناتها ورجالاتها خلف مرشحيها، وايصالهم الى البرلمان بشتى الطرق، يبدو التيار اليساري – القومي منقسماً على ذاته، غارقاً في خلافاته، وسجالاته، بما يسهل مهمة خصومه في اقصاء قاعدة شعبية عن المشاركة في الانتخابات. وبعد صدور النتائج يشرع هؤلاء الخصوم في توجيه الاتهامات للتيار اليساري القومي ومرشحيه بالعجز وغياب التأييد الشعبي، دون أن يلتفت أحد منهم أو يأخذ بالحسبان الدور الذي اضطلع به اهل اليسار أنفسهم في بلوغ هذه النتيجة التي تعكس بصورة مضللة مدى شعبية اليسار والتفاف الناس حول برامجه وشعاراته ومواقفه.
لا زال هناك وقت، لأن يعيد المقاطعون من أهل اليسار النظر في موقفهم من الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً، وان يسارعوا الى التلاقي والحوار مع رفاقهم المشاركين في الانتخابات للتباحث في تشكيل قوائم “اليسارية – القومية” وفي صياغة برنامجها الانتخابي، والاعداد جيداً لحملة الدعاية الانتخابية عبر التواصل المباشر مع الجماهير او عبر مواقع التواصل الاجتماعي، علنا ننجح سوّية في احداث ثغرة في جدار الصد الذي تقف خلفه قوى محافظة متنفذة في الدولة والمجتمع.