نضال مضيه
شكلت ولادة القائمة المشتركة نقطة انعطاف نوعية في المسيرة الكفاحية لجماهير يوم الأرض الخالد ضد سياسات التهميش والاقصاء والتمييز التي لم تتوقف عن ممارستها الطغمة الصهيونية الحاكمة منذ النكبة ولغاية الآن. وولد نجاح الأحزاب العربية الوطنية والإسلامية في ان تتعالى على خلافاتها واختلافاتها وتوحيد صفوفها لمواجهة محاولات اقصائها عن الحلبة البرلمانية صدمة للأحزاب الصهيونية التي راعها أن تتحول الجماهير العربية في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة الى قوة سياسية يصعب تجاهلها، تتزايد قدرتها في التأثير على توجهات وقرارات الأوساط الصهيونية الحاكمة المتعلقة بحقوقها ومجالات حياتها المختلفة.
تشكيل “القائمة المشتركة” لم يؤد فقط الى رفع نسبة الاقتراع في الوسط العربي، والى زيادة مقاعد النواب العرب في الكنيست، بل وفي سد كثير من المنافذ التي كانت تتسلل من خلالها الأحزاب الوسط واليمين واليسار الصهيونية لاقتناص أصوات من الناخبين العرب، وزيادة فرص حضورها في الكنيست، دون ان يسهم ذلك في حل أي من المشاكل الملحة والمزمنة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، التي تعترض الجماهير العربية في مدنها وقراها ولو بصورة جزئية.
الرعب الذي انتاب الأحزاب الصهيونية من نجاح “القائمة المشركة” في حصد 15 مقعدا من مقاعد الكنيست الأخيرة من إمكانية ان يتحول هذا النجاح الى نموذج قابل لأن يتكرس، ويتعزز في أي انتخابات قادمة عبر رفع نسبة المقترعين، وبالتالي ارتفاع عدد مقاعد النواب العرب، دفع قادة الأحزاب الصهيونية، بما فيها اليمينية، الى إعادة النظر في التكتيكات المتبعة تجاه الوسط العربي، وتجاه التعاطي مع مطالبه ومشكلاته، والتخلي، مؤقتا، عن اللهجة العدائية الصريحة والتحريض الارعن ضد الجماهير العربية.
ولم يكن أحد أكثر أقطاب اليمين الصهيوني العنصري خبثا ودهاء وكذبا، بنيامين نتنياهو، بمنأى عن هذه التوجهات. فهو كان سباقا لبذل مساعي وجهود محمومة لإحداث شرخ في “القائمة المشتركة”، والعمل على شقها واستمالة بعض أطرافها عبر اغداق الوعود الكاذبة والمخادعة، وفي نفس الوقت مواصلة “التحريض على القائمة المشتركة واتهامها بفقدان ثقة الجماهير العربية” وقد انزلقت، للأسف، الحركة الإسلامية الجنوبية برئاسة منصور عباس، الى هذا المنزلق الخطر، ووقعت في المحذور، وأبدت استعدادا عمليا للتساوق مع نتنياهو، دون ان تتنبه، أو تنصت للتحذيرات الآتية من شركائها في “القائمة المشتركة” ومن مصادر صديقة من مغبة هذا الانزلاق مع ما يحمله من مخاطر على وحدة “القائمة”، وتراجع قوتها التصويتية وحضورها في الكنيست القادمة.
تفرط الحركة الإسلامية الجنوبية بوحدة “القائمة المشتركة”، وتسلم مصيرها ومصير من يدعمها لنتنياهو وتحقق له ولحزبه اليميني المتطرف فرصة يتوق اليها للتسلل مجددا الى الوسط العربي، دون ان يردعها مثلا ما قاله المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الامريكية جون برينان في لقاء صحفي عن نتنياهو بانه “سياسي ماكر ولديه فهم ماكر للسياسة، وهو ليس رجل مبادئ وليس شخصا أخلاقيا، قابل لأن يغير رأيه وموقفه ولن يحترم وعوده، اذا كان ذلك في مصلحته السياسية”. ويضيف برينان أن نتنياهو “كذب عليّ شخصيا”.
تتزلق الحركة الإسلامية الجنوبية للوقوع في احابيل نتنياهو وتوجهاته الماكرة والمخادعة متغافلة عن سجله الحافل بالتحريض والتفوهات العنصرية، وعن الدور الحاسم الذي اضطلع به في تعزيز الطابع العنصري للحكومة ومؤسساتها واذرعها الاستيطانية وسياساتها، وعن مسؤوليته في إقرار منظومة كاملة متكاملة من القوانين العنصرية، منها قانون كامينيتس لتسريع هدم البيوت العربية، وقانون القومية الذي يفتخر به القطب اليميني المتطرف ولا ينكر دوره في سنّه، والذي يعتبر إسرائيل” ليس دولة جميع مواطنيها بل دولة قومية للشعب اليهودي وحده”.
وبعد ان كان نتنياهو لا يتردد خلال الحملات الانتخابية الثلاث الماضية بوصم العرب بعبارات تعتبر “عنصرية” و”تحريضية” بحقهم، ولم يتورع عن وصفهم بـ “داعمي الإرهابيين:”، فاجأ سكان مدن الناصرة وام الفحم والطيبة بزيارتهم وتفقد مراكز التطعيم ضد فايروس كورونا، وتقدم منهم باعتذار عن تصريحاته (العنصرية والتحريضية) السابقة، وصرح في الحضور قائلا: ” ان عرب إسرائيل يجب أن يكونوا جزءا كاملا يتساوى مع المجتمع الإسرائيلي”. كما لم يكن متحفظا في اغداق الوعود للجمهور الفلسطيني “بالقضاء على الجريمة في المجتمع العربي مثلما تم القضاء عليها في المجتمع اليهودي”، وبالحديث “عن زيادة الميزانيات للمجالس البلدية والمحلية للعرب.
لا يحتاج المرء الى فطنة ليدرك ان نتنياهو في ضوء صفاته الشخصية والسلوكية، ومنها ما سبق الاشارة اليه، يرمي من كل هذه الوعود والاقوال اقتناص جزء من أصوات المواطنين الفلسطينيين، بما يجنبه الخسارة المتوقعة في الانتخابات القادمة. فبدلا من التحريض على الجمهور العربي بات مرغما على اتباع تكتيك جديد يستهدف “الاحتواء والاحتضان”. وقد كان لافتا أن يخرج نتنياهو من جولته في الناصرة بإعلان صريح من جانب رئيس بلدية الناصرة علي سلام بالاستعداد لتقديم الدعم له ولليكود، بعد ان كان هذا الدعيّ (سلام) قد انقلب منذ بضع سنوات على قائمة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة لانتخابات مجلس بلدية الناصرة التي كان عضوا فيها وتنكر لها.
بحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة “معاريف” مؤخرا من المتوقع أن يحصل معسكر اليمين على 60 مقعد، وهو لا يحتاج الا الى صوت واحد ليشكل حكومة بمفرده. وهذا المقعد يجهد نتنياهو في انتزاعه من الجمهور العربي. ويبني نتنياهو آماله على الحركة الإسلامية الجنوبية التي نجح في دفعها للانسحاب من “القائمة المشتركة”، وعلى تودد رئيسها منصور عباس لليمين ودفاعه المتكرر عن دور الشرطة في مواجهة العنف المتفشي في المدن والبلدات العربية. وقد دعّمت الحركة الإسلامية الجنوبية مواقفها اللفظية بخطوة عملية تمثلت بامتناع نواب الحركة في الكنيست عن التصويت على اسقاط حكومة نتنياهو في اخر تصويت لحل الكنيست، مما شكل اول شرخ فعلي داخل “القائمة المشتركة”.
وحتى لو لم ينجح نتنياهو في كسب أصوات المواطنين العرب، فهو على الأقل يطمح لإحداث ارباك في صفوفهم يدفعهم للانكفاء من جديد والركون الى اللامبالاة المعهودة بالامتناع عن التصويت، وهو ما يشكل بحد ذاته ضربة للجهود المبذولة والتي نجحت في انتخابات الكنيست السابقة لزيادة نسبة الاقتراع في الوسط العربي، لأن هذا يصب في مصلحة الأحزاب المؤتلفة في اطار “القائمة المشتركة”.
ورغم الخسارة التي تكبدتها “القائمة المشتركة” بانسحاب الحركة الإسلامية الجنوبية منها، الا أن الأحزاب الثلاثة (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والتجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير) واصلوا العمل الحثيث للمحافظة على المكتسب الهام الذي تحقق وأثمر قوة اضافية للجماهير العربية، وتأثيرا أوسع كانت هناك آمالا بأن يتنامى ويتسع لولا انتهازية “الاخوان المسلمين” بقيادة عباس منصور. وقد أمكن التوصل الى اتفاق لخوض انتخابات الكنيست في 23 من آذار القادم ضمن “القائمة المشتركة”، الامر الذي قد يجعل الخسائر المتوقعة ضمن الحدود الدنيا.
اقتبس من الرفيق برهوم جرايسي بعد الإعلان عن توقيع الاتفاق فجر الخميس، ننطلق للعمل لتعزيز الحامية الوطنية، لصد الاحزاب الصهيونية بجميع تشكيلاتها وتسمياتها. ولنعزز القائمة المشتركة بحلتها الجديدة على أسس وطنية ثابتة ذات بوصلة واضحة: دولة وعودة، كرامة وحقوق وطنية، وحقوق مدنية ترتكز على أننا أهل البلاد، ولا نستجديها من بني صهيون…هيّا للعمل هيّا للفلاح…