الانقسام اللبناني قديم قدم تأسيس لبنان الكبير الذي تحتفل لبنان بمئويته هذه الأيام. هذا الانقسام الذي أسس له دستور لبنان الذي وضعه الاستعمار الفرنسي في زمن القناصل، لذلك فان هذه التركيبة دائماً ملغمة جاهزة للانفجار مع أي حدث. وما انفجار بيروت في الرابع من آب الا محطة من هذه المحطات، لذلك فان مصيبة لبنان هو في تركيبته الطائفية هذه التركيبة التي جعلت من لبنان ساحة صراع دولية وإقليمية. وما الانفجار الا عنواناً لاهتراء هذا النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية. وهذا يفسر التزاحم بين ذوي المصالح الخارجية والإقليمية، ظاهرها التعاطف مع لبنان المنكوب، والمطالبة بإصلاحات سياسية، تطوق الواقع السياسي، أما كواليسها فهي مفخخة بملفات تستثمر نتائج الكارثة لعودة الهجمة الاستعمارية. ويستثنى منها بعض المساعدات، منها العربية كالتي جاءت من مصر والأردن والعراق فهذه جاءت انطلاقاً ونخوة من أخوة ما زالت نابضة في عروقهم الدم العربي رغم كل محاولات طمسه كما يمكن قبول المساعدات التي حطت على أرض لبنان بلا ضجة إعلامية كالتي من روسيا والصين وإيران. بينما ترافقت المساعدات الأخرى بالبوارج والمدمرات. هذا درس خصوصاً للقوى الانعزالية مفادها ان الشعب اللبناني لا يمكنه أن يخرج من ثوبه العربي.
ويبدو أيضاَ أن مصيدة الانفجار الملتبس قد أسعفت خلطة شوارعية ممن امتهنوا تفسيخ الدولة والذين ظنوا ان الظروف باتت مواتية، كما واتتهم إثر الانفجار الذي أودى بحياة رفيق الحريري (2005) إما لتفكيك الدولة أو تدويل الصراع اللبناني، فانطلقوا الى الشوارع مدججين بالعصي ومحصنين بالخوذ البيضاء ولا نعرف ماذا يخبئون في حقائبهم على ظهورهم، متهمين جهات بعينها ومطالبين بإسقاط الحكومة ورئيسها وبتدويل القضية برمتها.
ووصل الأمر ببعض مثقفي هذه الجهات المجاهرة بالمطالبة بعودة الانتداب وعلى وقع هذ الاحلام جاء زيارة ماكرون الأولى والثانية والثالثة على الطريق ولعل أفضل من وصف هذه الزيارة بيان للحزب الشيوعي اللبناني جاء في مقدمته على وقع تفاهمات دولية – إقليمية وإخراج فرنسي ماكرونيّ في الذكرى المئوية الأولى للانتداب الفرنسي على لبنان، هرولت قوى السلطة بمختلف تشكيلاتها لتحتفل بتبعيتها وتكرسها نهجا وممارسة عبر تسمية رئيس مكلّف للحكومة بسرعة غير مسبوقة، كما درجت عادتهم في الانتقال من وصاية الى وصاية أخرى لتكرّس وضع لبنان السياسي تحت وصاية الخارج المباشرة. قدّم الجميع، من قوى السيادة والحياد والممانعة وما بينهم، تنازلات عن لوائح شروطهم الطويلة، كرمى لعيون أوصياء الخارج، من دون أن يقدّموا أي تنازل أو مبادرة لشعبهم المنتفض في الساحات منذ 17 تشرين الأول حتى اليوم. سارعوا جميعاً إلى استعادة ممارساتهم السابقة في لعبة تقاسم كعكة السلطة على أسس مذهبية وزبائنيّة، فيما لم تجفّ بعد دماء اللبنانيين الذين قتلهم انفجار/جريمة المرفأ التي يتحمّل النظام الطائفي القاتل ومنظومته الحاكمة المسؤولية المباشرة عنه.
لم يأت ماكرون للاستماع إلى الشعب اللبناني كما يدعون في وعودهم الورديّة، بل جاء لينقذ النظام المتهالك ويعيد إنتاج صيغةٍ جديدةٍ له تؤسس لانطلاقة المئوية الثانية للبنان على قواعد المئوية الأولى نفسها: منطق التوازنات الطائفية والمذهبية القاتلة ونظام علاقات الاستتباع والارتهان للخارج.
المحكمة الدولية
تماماً كما فاجأ ماكرون ذلك الفريق المتربص جاء قرار المحكمة الدولية بعد 15 سنة من التحقيق واتهام اشخاص والتراجع عن ذلك عدة مرات. وبعد أن كلفت لبنان 900 مليون دولار جاء قرار المحكمة مفاجئاً وغير مرض للغرب، والاعلام الخليجي يجر ذيول الخيبة، والسعودية تفقد اعصابها مطالبة بمحاكمة حزب الله على مبدأ (عنزة ولو طارت) ولا يريدون أن يستوعبوا أن قراءة الحكم الذي صدر يوم 18/8 مستحيلة خارج السياقات والتحولات الكبيرة التي تعيشها المنطقة والاقليم والعالم. فلبنان وان كان ساحة للتصفيات الإقليمية والدولية لكنه اليوم اصبح أكثر كلفة على الجميع بسبب تعقد تركيبته فصار من الضروري أن تتغير المعادلة، باتجاه التفاهمات بين الأطراف كافة. يبدو أن ثمة صفقة ربما تكون في الطريق، هي التي اقتضت هذا القرار، وقد لا تكون واشنطن وباريس بعيدتين عنها. ولكن لبنان الذي انتظر طويلاً وتكلف ما يقارب المليار دولار لتأكيد حقيقة أن الآخرين هم من يقرر مصيره.
لبنان أمام مرحلة وجودية، الترقب فيها سيد الموقف، ومن الضروري التخفف من الانفعال والتشنجات وتوسيع هوامش التفاهمات وان ينصب العمل على تأمين استقرار أمني ومعيشي بين الناس. لم يعد أحد منهم قادراً على الغاء أحد ولا على الوقوف وحده في مواجهة الجميع. وقد يكون من حسن حظ لبنان أن من يستطيع لا يريد الفوضى ومن يريدها لا يستطيع.
ونختم أيضاً ببيان الحزب الشيوعي اللبناني الذى دعا فيه قوى ومجموعات الانتفاضة التي تتوافق على طرح الحكومة الانتقالية ذات الصلاحيات التشريعية من خارج المنظومة الحاكمة الى التداعي والالتقاء وهذا اللقاء يجب أن لا يكون محكوما فقط بمنطق الاعتراض وحده، بل أن يتمّ تأسيسه على قاعدة مشروع سياسي متكامل لبناء السلطة البديلة، القادرة على إنقاذ اللبنانيين من أزمتهم السياسية والاقتصادية. وهذا يعني بالتحديد تحميل أعباء الخسائر للفئات التي حققت الثروات الطائلة في العقود الماضية ونهبت المال العام والخاص، وتجسيد حقوق اللبنانيين في التغطية الصحية الشاملة – وبخاصة في مواجهة الانتشار المخيف للكورونا – والتعليم المجاني الجيّد والنقل العام والسكن الشعبي، واستثمار الأموال المهدورة في بناء مرتكزات اقتصاد وطني منتج، وإطلاق عملية إصلاح سياسي جذري يشمل انتاج رافعات الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، ومن ضمنها قانون انتخابات نسبي خارج القيد الطائفي وقوانين مدنية للأحوال الشخصية واستقلالية القضاء.