احتفلت البشرية التقدمية في الثامن والعشرين من الشهر الماضي بالذكرى المئوية الثانية لميلاد فريدريك إنجلز الصديق والنصير الأقرب لكارل ماركس، الذي وضع معه أسسا فكرية للشيوعية العلمية مدهشة في حيويتها، وخاضا معا نضالا عمليا لتحرير الشعب العامل وإرادته، الذي ربطاه باندحار الرأسمالية وانتصار الاشتراكية.
إضافة إلى نضاله السياسي، انكب إنجلس على دراسة العلوم الطبيعية، ومواكبة أحدث التطورات العلمية، والاطلاع على العلوم الطبيعية والهندسية. وأصبحت أعماله في هذا المجال حجر الزاوية في التاريخ الماركسي للعلم عموماً، والعلوم الطبيعية والهندسية خصوصاً. وقد تكررت في أبحاث انجلز ودراساته العميقة الإشارات إلى مئات المؤلفين وأعمالهم في مختلف فروع العلوم.
لم يكن فريدريك إنجلز رقم اثنين. لم يكن في عهد ماركس مجرد آلة كمان ثانية (كما عبر انجلز نفسه). لقد كانا شخصيتين عملاقتين متساويتين في الحجم. وقد عبر لينين عن هذا الانسجام والتكامل في شخصية هذا الثنائي العظيم بالقول: “من أجل فهم ما فعله فريدريك إنجلز للبروليتاريا ، يجب على المرء أن يدرك بوضوح أهمية تعاليم ماركس وأنشطته في تطوير الحركة العمالية الحديثة”. وبما أنه من الصعب بل من المستحيل الحديث عن عمل إنجلز بدون ماركس ، فقد تطورت صورة نمطية في الوعي الجماهيري حول إنجلز باعتباره القضية الثانية في ظل ماركس. نعم ، كتب إنجلز نفسه في إحدى رسائله: “المشكلة هي أنه منذ أن فقدنا ماركس، كان لا بد لي من استبداله. طوال حياتي ، فعلت ما كان من المقرر أن أفعله – عزفت على الكمان الثاني – وأعتقد أنني قمت بعملي بشكل جيد. كنت سعيدًا لأنني حصلت على أول كمان مثل ماركس “.
والى جانب المؤلفات والوثاق الأساسية التي وضعاها ماركس وانجلز بشكل مشترك، ألّف انجلز عدداً من كلاسيكيات الماركسية التي ساهم فيها بتأسيس المنهج المادي الديالكتيكي وتطبيقه للتفسير والتغيير في الطبيعة والمجتمع والفكر، مثل: «ضدّ دوهرينغ» و«ديالكتيك الطبيعة» و«لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية»، و«الاشتراكية العلمية والطوباية». فضلاً عن مشاركته لماركس بالتأليف المشترك للبيان الشيوعي والإيديولوجيا الألمانية.
من أهمل الصفات الأخلاقية والمناقب الثورية لانجلز الذي أتيحت له منذ ولادته كل الفرص للعيش مرهفا نظرا للثراء الذي كانت تتمتع، فقد رفض بشكل قاطع مواصل الحياة في عالم الاستغلال الرأسمالي وبناء رفاهه الشخصي على حساب التواطؤ مع هذا النظام وقيمه، وانسلخ عنه بشكل نهائي، وقام بتخطي المصالح والصور النمطية لطبقته (البورجوازية)، وتجاوزها فكريا وروحيا، مفضلا عليها قيم الإنسانية – العدالة ، المساواة ، التضامن ، التي قام مع رفيقه ماركس بتعليلها نظريا في أعمالهما المشتركة.
لم يستخدم إنجلز الأموال الكبيرة التي ورثها عن والده فقط لتمويل الأنشطة العلمية والسياسية التي وحدته مع رفيقه العظيم، بل يمكن القول دون مبالغة أن ماركس، الذي اضطهدته السلطات و “النخبة” في الدول الأوروبية آنذاك ، كان قادرًا على العمل بنشاط حتى نهاية حياته وعدم ترك أسرته تموت من الجوع فقط بفضل الدعم الذي قدمه له إنجلز.
بعد الاستقرار في بريطانيا، واصل المفكران الكبيران تعاونهما. ويتبين هذا التعاون الوثيق من خلال التبادل النشط للرسائل وخاص في االفترة التي كان يشتغل فيه ماركس على المجلد الأول من رأس المال. وبعد أن خط ماركس الورقة الأخيرة في المجلد كتب إلى صديق الأقرب: “أنا مدين لك فقط بأن قدر لهذا العمل ان يرى النور”. وهذه عبارة تكتنز العديد من المعاني والاعتراف بدور انجلز في هذا المشروع.
ولم يتوقف دور انجلز على المساهمة بشكل او بآخر في أنجاز المجلد الأول من رأس المال. فبعد وفاة ماركس، انهى انجلز وأعد للنشر المجلدين الثاني والثالث من رأس المال ، العمل الرئيسي لماركس. وليس من قبيل المصادفة أن يشير لينين ، في حديثه عن دور انجلز في انجاز مشروع ماركس الأبرز، بالقول أن “هذان المجلدان من رأس المال هما عملا ماركس وإنجلز”. كما دعم إنجلز عائلة ماركس ، التي ظلت بدون أي وسيلة للعيش بعد وفاته، كرس انجلز بقية حياته تمامًا لاستمرار العمل الذي شرع به صديقه اللامع. وهنا أيضا تجلت شخصية انجلز وما فطرت عليه من خلق انساني رفيع، ووفاء منقطع النظير، وفهم عميق واعتراف حقيقي بانجازات الآخرين وقيمتهم.
إن ميزة إنجلز التي لا يمكن إنكارها هي تطويره للنظرية الثورية وممارسة الحركة العمالية العالمية. وقد تم التأكيد في “بيان الحزب الشيوعي” على أن الطبقة العاملة وحدها هي القادرة على تحرير المجتمع من الاضطهاد ، وتدمير الشكل الرأسمالي للملكية واستبداله بالملكية العامة. لا يمكن إنجاز هذه المهمة إلا من خلال الثورة الاشتراكية البروليتارية. وهذا بدوره يتطلب إنشاء حزب سياسي للبروليتاريا – الحزب الشيوعي.
كتب ماركس وإنجلز أن الشيوعيين “هم الجزء الأكثر حزمًا من الأحزاب العمالية في جميع البلدان ، ويشجعون دائمًا على المضي قدمًا ، ومن الناحية النظرية لديهم ميزة على بقية البروليتاريا في فهم ظروف الحركة البروليتارية ومسارها ونتائجها العامة. كما سلطوا الضوء على الأهداف المباشرة للحزب الشيوعي: “تكوين البروليتاريا في طبقة ،الإطاحة بحكم البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية “.
ترتدي أفكار إنجلز بشأن تكتيكات الأحزاب البروليتارية أهمية كبيرة. فمن ناحية ، طالب مؤسسو الشيوعية العلمية بأخذ الوضع الموضوعي القائم في الحسبان ومحاربة أولئك الذين يريدون القفز فوق مرحلة تاريخية غير مكتملة. ومن ناحية أخرى ، أشار كل من إنجلز وماركس مرارًا وتكرارًا إلى أن الناس “يصنعون تاريخهم بأنفسهم”، وبالتالي ، لا يمكن الاستهانة بالتأثير العكسي للبنية الفوقية السياسية بأكملها على الأساس الاقتصادي.
كما حذر إنجلز من الدوغمائية أيا كان أشكالها وتعبيراتها ، وأشار إلى أن الحركة الشيوعية في كل مكان ستتطور بطرق مختلفة “حسب المكان والناس”. كتب: “لا يمكنك أن تقول للفرنسيين أن يتطوروا على الطريقة الألمانية”.
وفي الوقت نفسه ، شدد على ضرورة الانتباه إلى الأسئلة النظرية لإجراء تحليل صحيح للوضع. في ظروف التطور “السلمي” النسبي للرأسمالية ، تحتاج الطبقة العاملة وحزبها إلى التركيز على تنظيم وتجميع قواها. علّم إنجلز الاشتراكيين مواجهة الثورات الاجتماعية الحتمية ، مستخدمًا الوقت اللازم للتعزيز النظري والتنظيمي لأحزاب الطبقة العاملة. الخطأ الفادح للألمان هو تخيلهم أن الثورة يمكن القيام بها في يوم واحد. في الواقع ، إنها عملية طويلة الأمد.
خلال هذه الفترة “السلمية” ، يمكن للشيوعيين المشاركة ـ بل ينبغي عليهم – المشاركة في الانتخابات، التي أطلق عليها وصف “مدرسة الشعب”. وأضاف أن النضال الانتخابي المفتوح هو أفضل دعاية فعالة أكثر من الكتب والنشرات والمحادثات، مشددًا على أهمية وضرورة اهتمام البروليتاريا بالحفاظ على الحريات الديمقراطية وتوسيعها. أشار إنجلز باستمرار إلى أنه لا ينبغي اعتبار هذه الحريات غاية في حد ذاتها. بل يجب أن تصب في المجرى العام لانجاز مهمة تطوير النضال التحريري من أجل التحول الثوري للمجتمع. غير ان انجلز حذر من المبالغة في تقدير دور البرلمانات ومن تشكل ما أسماه بـ الأوهام البرلمانية التي انتشرت بين بعض الاشتراكيين في نهاية القرن التاسع عشر، مؤكد على أنه طالما بقيت قوة رأس المال قائمة ، فلا يمكن للحريات الديمقراطية في حد ذاتها أن تؤدي إلى تحرير العمال.
لم يكل كل من ماركس وانجلز من الإشارة بصورة متكررة الى أهمية الأممية البروليتارية واعتبراها فكرة مهمة بالنسبة لنا. كما ركزا مرارا وتكرارا على أحد المبادئ الأساسية للنشاط الثوري للشيوعيين في مختلف البلدان، المتمثل في تبادل الدعم والمساندة والتضامن في النضال ضد الاضطهاد والاستغلال الاجتماعيين. وطالب ماركس وإنجلز الحزب والطبقة العاملة أن يكونوا على استعداد دائم للوفاء بواجبهم في التضامن البروليتاري الأممي.
إن مواجهة المشكلات الحادة والمعقدة التي تنتصب اليوم في وجه الحركة الشيوعية والعمالية العالمي، والحركة التقدمية، بوجه عام، والتصدي بنجاح للأحداث التي تعصف بالعالم منذ انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السبابق وبلدان ما كان يسمى بـ الاسرة الاشتراكية، التي تؤكد مرة أخرى الطبيعة الشريرة والعابرة تاريخيًا للرأسمالية، تلزم شيوعيي وتقدميي القرن الحادي والعشرين أن يدرسوا ماركس وإنجلز من جديد، وأن يسترشدوا بإنجازات واكتشافات تراثهما الفكري الغني والذي لا زال في جزء كبير منه صالحا للاتكاء عليه والاسترشاد به في فهم ما يجري حولنا وتغييره.