عرفت فرنسا في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق، ساركوزي، انتقال أفكار المحافظين الجدد من الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرنسا. وقد تميزت سياسات ساركوزي بالتشدد مع المهاجرين، والاعتماد على المقاربات الأمنية في معالجة مشكلاتهم، فدعا الفرنسيين إلى التساؤل عما آلت إليه هويتهم الوطنية مع ظهور أجيال جديدة من المهاجرين، فشجّع تنظيم لقاءات أخذت تسمية “النقاش الكبير حول الهوية الوطنية”، ما فتح الأبواب على مصراعيها لكل الانحرافات العنصرية، وأذكى مشاعر الحقد والإسلاموفوبيا.
ويعرف عن ساركوزي انحرافه العنصري الخطير في العاصمة السنغالية “دكار” عام 2009، حينما وصف الرجل الإفريقي بأنه “لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية، ولم يسهم في بناء الحضارة الإنسانية بما فيه الكفاية”.
وقد استلهم مفكرو المحافظين الجدد في فرنسا نظريات نظرائهم الأمريكيين، وأبرزهم صامويل هنتنجتون صاحب نظرية “صراع الحضارات”. فهذا وزير الداخلية في عهد ساركوزي كلود غيون يطل علينا بترهات تزعم أن “الحضارات ليست متساوية”. وهو في ذلك يتكيء على مؤلف أحد منظري اليمين الجديد المقربين من ساركوزي “ايف روكو” بعنوان “المحافظون الجدد.. تيار للإنسانية” الذي تضمن تصنيفاً عنصرياً للثقافات والحضارات الإنسانية بحيث اعتبرت الحضارة الإسلامية “بربرية ودموية” في مقابل رقي وإنسانية الثقافة الغربية – هكذا دون أي تمييز أو فرز بين عناصر تقدمية وأخرى رجعية وحتى ذات صبغة عنصرية وفاشية.
بطبيعة الحال يستند منظرو اليمين المحافظ الفرنسي الى أفعال مدانة ومرفوضة ارتكبها عناصر من التيار الإسلامي المتشدد في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، لتبرير وصم الثقافة والحضارة الإسلاميتين “بالعنف والهمجية” وتكئة لانتقاد الديانة الاسلاموية المقترن دائماً – ويا للغرابة بالدفاع عن الكيان الصهيوني.
وبالقفز مباشرة الى الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس الفرنسي ابمانويل ماكرون الى بيروت وما تخللهما من تصريحات تناقضت مع توجهات أمريكية وغربية دأبت في الآونة الأخيرة على تصنيف “حزب الله” منظمة إرهابية لا يجوز التعاطي معه بأي شكل من الاشكال وشن انصار اليمين المحافظ الفرنسي الجديد حملة تحريض ضد الحرب عكست نفسها في الصحافة الفرنسية باتهامات تصور الحزب “دولة داخل دولة”، والمطالبة بتصنيفه منظمة “إرهابية”.
وقد اعتبر ماكرون نفسه أن هذه الحملة تندرج في اطار حملة منسقة من قبل جماعة المحافظين الجدد الفرنسيين، وهي تسمية استخدمها ماكرون بنفسه للإشارة الى أوساط فاعلة في وزارة الخارجية، واللوبي الصهيوني، هادفة إلى الضغط على الرئيس الفرنسي لعرقلة ما يعتبر انفتاحاً من قبله على الحزب. وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل والولايات المتحدة تشجّعان مثل هذه الحملة.
أول حديث رسمي عن وجود محافظين جدد في دوائر الدولة الفرنسية صدر عن إيمانويل ماكرون بعد شهر ونيف على وصوله الى الرئاسة، في تموز 2017. قبل هذا التاريخ، لفت عدة باحثين الى النفوذ المتعاظم لهذه «الزمرة»، في وزارة الخارجية وبين الخبراء الاستراتيجيين العاملين لحساب وزارة الدفاع. لكن استخدام رئيس الدولة لهذا المصطلح – في مقابلة مع مجموعة من الصحف الأوروبية، لا الفرنسية وحدها، مخصصة للسياسة الخارجية التي ينوي اعتمادها، وعند تناوله التعامل الفرنسي مع الأزمة السورية وضرورة مراجعته – أعطى مصداقية أكبر لما كان يعتبر فرضية باحثين. عاود ماكرون الكرّة في مداخلته أمام مؤتمر السفراء في أيلول 2019، عندما أدان ما سمّاه “دولة عميقة” في وزارة الخارجية: «أنا أعرف أن لدينا نحن أيضاً دولة عميقة وأن رئيس الجمهورية قد يعلن عن مواقف لكن الاتجاه الرئيسي لديها سيرى أنه رغماً عن هذه المواقف فإن المفروض بالنسبة اليه، بما أنه يفترض أنه يمتلك الحقيقة، هو الاستمرار في السياسات السابقة». كان ماكرون يركز هذه المرة على السلبية التي يلمسها داخل المؤسسات تجاه جهوده للتقارب مع روسيا، ومحاولات عرقلتها من قبل هؤلاء، وكذلك في منع أي تعديل جدي للمقاربة الفرنسية للأزمة السورية.
صلات وطيدة تجمع المحافظين الجدد في فرنسا باللوبيات المرتبطة بإسرائيل والإمارات
شهرية “لوموند ديبلوماتيك”، في عددها الصادر في أيلول الحالي، نشرت مقالاً مهما للصحافي مارك أنديفيلد بعنوان “ايمانويل ماكرون والدولة العميقة” عرض فيه قصة صعود تيار المحافظين الجدد داخل مؤسسات الدولة الفرنسية وتعاظم نفوذهم خلال رئاستي نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند الأطلسيَّي الهوى والمؤيّدَين لإسرائيل. باختصار، إن أنصار هذا التيار مقتنعون بأن إصرار فرنسا على الاستقلالية والتمايز عن الولايات المتحدة على المستوى الدولي بات يتناقض مع تراجع قدراتها ومع تغيرات في موازين القوى الدولية تفرض على أيّ حريص على مصالحها السعي لوحدة المعسكر الغربي في مواجهة صعود القوى غير الغربية كالصين وروسيا وتلك الاقليمية كإيران وتركيا.
ما لم يتطرق إليه المقال بشكل واف هو الصلات الوطيدة التي تجمع أقطاب المحافظين الجدد باللوبيات المرتبطة بإسرائيل والدول الخليجية، وبالإمارات تحديداً، النشيطة جداً والتي تمتلك واجهات «بحثية» وإعلامية وظيفتها تنسيق الجهود مع هذا التيار وإطلاق الحملات الإعلامية – السياسية المناسبة لمصالحها وتوجهاتها. وليس سراً أن بعض الصحافيين الفرنسيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط يعملون لحساب هذه اللوبيات، التي تغدق عليهم بسخاء، وينسقون معهم تنظيم حملات إعلامية مناهضة للانفتاح الفرنسي على “حزب الله” تتقاطع مع حملات موازية تشنها شخصيات وأطراف لبنانية تتطلع لتحقيق ذات الأهداف وتربطهم علاقات “ودية” بمسؤولين في دول خليجية أشرفوا مؤخراً على إنشاء مؤسسة إعلامية.