تتداخل السياستان الأمريكية والإسرائيلية حيال الصراع العربي والفلسطيني – الإسرائيلي وسائر صراعات المنطقة على نحو يصعب الفصل بينهما. ويعكس هذا التداخل مدى تشابك المصالح بين المؤسستين الحاكمتين في كل من واشنطن وتل أبيب، وأي تغيير يحدث في أي من العاصمتين أو في كليهما يجب مقاربته خارج دائرة هذا التشابك في المصالح وبعيداً عن توقع حدوث تبدل جوهري يمكن الرهان عليه انطلاقاً من عملية تداول السلطة الجارية حالياً في البيت الأبيض أو المتوقع حدوثها في الأشهر القليلة القادمة في مقر حكومات “إسرائيل”.
وبالرغم من ذلك يصعب الاستبعاد المطلق لإمكانية حدوث تباين ولو طفيف يتعلق بالتكتيك الذي يمكن أن تتبعه هذه الإدارة الامريكية أو تلك في التعاطي مع المستجدات المتسارعة التي تحدث مع أن الجانبين متفقان منذ أمد بعيد على أن أي تباين أو اختلاف في قراءة هذه المستجدات أو في الموقف منها يجب أن يبقى داخل الغرف المغلقة وأن لا يتم التعبير عنه في العلن.
لا يمكن فهم اللهاث المحموم للمسؤولين الأمريكيين ونظرائهم الإسرائيليين لإحداث مزيد من الاختراقات التطبيعية في دائرة الدول العربية والإسلامية واستمالة أكبر عدد ممكن من أنظمتها لتطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي العنصري، الاّ في إطار الخشية من الاّ تمارس إدارة بايدن نفس الضغوط على الأنظمة العربية والإسلامية الدائرة في فلكها لإنهاء اشكال المقاطعة حتى الشكلية منها لإسرائيل وحسم التردد الذي تبديه بعضها حيال إقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها.
لذا نجد أن إدارة ترامب تمارس ابتزازاً مفضوحاً وضغوطاً متعددة الاشكال، مكشوفة ومستترة وتوظف نقاط الضعف ومظاهر الوهن في الأوضاع الداخلية لبعض الأنظمة العربية والإسلامية، او معاناتها من جراء العقوبات الاقتصادية أو بسبب وضعها على لوائح الإرهاب، او حاجة أنظمتها لضمانات تكفل بقاءها في سدّة الحكم، ومواجهة التهديدات الداخلية أو الخارجية.
لقد تعمدت الإدارة الأمريكية عدم اتخاذ خطوة ملموسة للرد على القصف الذي طال شركة أرامكو في شهر أيلول من العام الماضي لتغذية المخاوف لدى الأنظمة الخليجية من أن الولايات المتحدة لن تهب لنجدتها في حال ما تعرضت لأي هجوم خارجي مباغت. والمقصود هنا بالتحديد إيران وليس أي دولة أخرى، والايحاء بأن – على حد ما تزعم أمريكا وأتباعها – الجهة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك القدرة ولها مصلحة في ردع أي هجوم إيراني محتمل على منطقة الخليج هي إسرائيل. وبالتالي فإن أمن هذه الدول ودرء الخطر الإيراني المزعوم بات مرهوناً بإنهاء حالة الصراع وتطبيع العلاقات معها.
أما في حالة السودان، فقد استغلت الإدارة الأمريكية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها السودان، والتي تعمقت بتأثير وضع السودان على لوائح الدول الراعية للارهاب، وهو الذي كان مطلباً اسرائيلياً في حينه، لربط مسألة رفع السودان من لوائح الإرهاب بتطبيع علاقاته مع إسرائيل.
وفيما يتعلق بالمغرب، فقد قايضت الإدارة الأمريكية اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية خلاقاً للقانون الدولي، بإعادة المغرب لعلاقاته الطبيعية مع إسرائيل.
ولا نعلم، على وجه التحديد، ماهية المقايضات التي ستلجأ اليها إدارة ترامب في الفترة المتبقية لوجودها في البيت الأبيض لجر أنظمة عربية وإسلامية أخرى مرشحة لأن تنخرط في مسارات التطبيع ولكنها بالقطع لن تعدم الوسيلة التي تستطيع بواسطتها الوصول الى مبتغاها. هذا النوع من المقايضات ضروري لكي تتمكن الدول التي سلكت طريق التطبيع مع كيان الاحتلال من استمالة شعوبها لهذا المسار وكسب تأييدها له.
وتنبري وسائل الاعلام الناطقة بلسان أنظمة التطبيع وتلك الدائرة في فلك الدوائر الصهيو- امبريالية لاختلاق مكاسب يمكن أن تجنيها الدول المطبّعة، ويتم تكريس ساعات بث طويلة لبرامج حوارية يجري انتقاء المشاركين فيها بعناية، يتولون مهمة إعادة صياغة وعي المشاهدين والمستمعين لهذه البرامج وتسويق الأوهام بأن الاعتراف بإسرائيل “دولة طبيعية” في المنطقة من شأنه أن يعود على المنطقة وعلى دولها بالرخاء والازدهار ويوقف إراقة دماء أبنائها وينهي حالة الصراع القائمة فيها منذ عدة عقود.
هكذا يجري قلب الحقائق رأساً على عقب. فكيان الاحتلال الذي يتحمل المسؤولية عن استمرار بؤرة التوتر المتفجرة وتصاعدها بمواصلة احتلاله للأراضي الفلسطينية، والسعي لزرعها بالمستعمرات بعد انتزاعها بالقوة والاكراه من أصحابها، والتنكر المتواصل لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة، ونزوعه المتواصل للتوسع والهيمنة على المنطقة العربية برمتها وابقائها تحت التهديد باستخدام القوة المسلحة الغاشمة، يصبح دولة طبيعية ومسالمة بحاجة الى اعتراف الدول العربية بـ “حقه” في الوجود الآمن، وهو الذي يتعرض للتهديد، وليس هو مصدر التهديد وعدم الاستقرار وغياب الاستقرار في المنطقة بأسرها.
وأنه لأمر عصي على الاستيعاب أن يجري تسويق هذه الأكاذيب والمزاعم في ظل انتقال أنظمة عربية من مربع التواطؤ معها بالصمت، الى مربع التواطؤ المكشوف بالموافقة على التطبيع مع الكيان القائم بالاحتلال منذ أكثر من نصف قرن، والتخلي عن ربط ذلك بإبداء الاستعداد والتسليم والاذعان لقرارات الشرعية الدولية المتكررة.
وكما أن معاهدات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو لم تضع القضية الفلسطينية على سكة الحل العادل الممكن وليس المطلق، ولم تؤدِ لأن تنعم المنطقة بالسلام والأمن والاستقرار، بل على العكس شجعت كيان الاحتلال والتوسع والعدوان على اقتراف المجازر والاعتداءات الدموية بحق الشعب الفلسطيني والشعبين اللبناني والسوري بصورة أكثر بشاعة ودموية وغطرسة، فان اتفاقية ابراهام لن تلجم إسرائيل عن مواصلة سياسات تكريس احتلالها وقضمها للأراضي الفلسطينية والقدس في مقدمتها بل تزيد من وتيرة تهويدها وزرعها بالمستعمرات، وتنفيذ مخططات ضمها وتطلق أيادي حكام تل أبيب المنتشين باستسلام أنظمة التطبيع العربية لتصفية الحقوق الوطنية المشروعة والثابتة للشعب الفلسطيني بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وحرمانه نهائياً من ممارستها على ترابه الوطني.
اتخاذ مسار التطبيع العربي منحنى صاعداً يصاحبه أو سيصاحبه في الجهة المقابلة تصاعد لحركة الشعوب وقواها المناضلة باتجاه مقاومة التطبيع وشتى اشكال التغلغل الاقتصادي (التجاري والزراعي) أو العلمي – التقني الإسرائيلي في الدول المطبّعة، وستبقى “إسرائيل” في نظر الشعوب العربية كافة كياناً منبوذاً في المنطقة وغريباً عنها ودخيلاً عليها.