على مدى عقود طويلة شكلت الديمقراطية الغربية بشقيها الأمريكي والأوروبي نقطة جذب واستقطاب للعديد من دول العالم، وخاصة في ما يسمى بـ دول “العالم الثالث” التي استلهمت أو سعت لاستلهام منظومة القيم التي جسدتها في مجال الحريات والانتخابات الدورية وإرساء قواعد تسمح بتداول السلطة وانتقالها بسلاسة من حزب او ائتلاف حزبي الى آخر.
ومع أننا لحظنا على الدوام أوجه القصور العديدة الماثلة في هذا النموذج من الديمقراطية التي اتسمت بطابع طبقي وكانت مسخرة بصورة أساسية في خدمة مصالح الأثرياء وضمان احكام قبضتهم على الدولة والمجتمع مع المحافظة على جوهر نظام الاستغلال المتوارث من تشكيلات اقتصادية – اجتماعية سابقة.
وحتى مبدأ تداول السلطة فقد كان في التطبيق العملي محصوراً بين أحزاب أو ائتلاف حزبي تعبر وتجسد بصورة أساسية مصالح البورجوازية الكبيرة والاحتكارية، من دون أن تسمح بطبيعة الحال لأي أحزاب تمثل مصالح الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية النقيضة لها من الحصول على أغلبية تمكنها من تشكيل الحكومة وتطبيق برنامجها الاقتصادي والاجتماعي البديل.
وبالرغم من أوجه القصور الأساسية هذه وأخرى غيرها، الاّ أن النموذج الذي طبق في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية “الليبرالية السياسية” وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية في إطار مفاهيم كان ذا فائدة بغياب أي نموذج للديمقراطية في عدد كبير من دول ما يسمى بـ “العالم الثالث” بما فيها غالبية بلدان عالمنا العربي، وتفشي نماذج من الديكتاتورية العسكرية والمدنية فيها.
لذا فنحن هنا حصراً نعقد مقارنة بين ما هو سائد أو ما كان سائداً حتى وقت قريب في العديد من بقاع العالم، ومنها عالمنا العربي، وبين ما هو قائم او كان قائماً في البلدان الأوروبية وأمريكا. غير أن ما تشهده العديد من دول ما كان يسمى بـ “العالم الحر”، بما فيها زعيمة هذا العالم – الولايات المتحدة الامريكية – من ظواهر غير مألوفة في سياق الانتخابات الرئاسية او البرلمانية بات يطرح علامات استفهام كبيرة على مدى الجاذبية التي لا زالت تتمتع بها الديمقراطية البورجوازية / نمط الليبرالية السياسية وفق المفهوم الغربي، تماماً كما هو الحال بالنسبة للنموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي بات يعاني من أزمات دورية متقاربة زمنياً قوية كشفت عن أوجه قصور عديدة وأضعفت من جاذبيته في أعين غالبية شعوب الدول النامية التواقة الى نموذج اقتصادي ينتشلها من التخلف والفقر والبطالة ويكفل لها معدلات نمو مرتفعة، ويطور قطاعات إنتاجية ذات قدرة عالية على توفير الدخل للمالية العامة وتأمين فرص عمل بشكل مطرد.
وقد كشفت الانتخابات التي جرت خلال الأعوام القليلة الماضية في عدد من الدول الغربية، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ان الديمقراطية الغربية وليس فقط نظم الانتخابات باتت تعاني من أزمة، من أبرز مظاهرها تزايد القناعة لدى الجماهير الغفيرة بأن المجالس النيابية لم تعد هي الفاعل الحقيقي في إدارة شؤون البلاد، وان نموذج الشركات الاحتكارية العابرة للقارات المعولمة هي – على حد تعبير الدكتور جلال أمين – استلبت من الدولة الوطنية مقدراتها وجعلت من هياكلها الإدارية آليات لتنفيذ نزعاتها للهيمنة والتوسع داخلياً وخارجياً. وهكذا انخفضت الاعداد المشاركة في الانتخابات انخفاضاً كبيراً ولم تعد الجماهير الشعبية شغوفة بمسألة التصويت والاقتراع.
وقد ظهرت في الأعوام الأخيرة إشارات تشير الى تدهور الليبرالية السياسية في الدول الغربية. وهذه الاشارات تمثلت في ظهور القومية والشعبوية اليمينية وفي تعامل أوروبا مع ازمة المهاجرين او خروج بريطانيا الفوضوي من الاتحاد الأوروبي.
لقد توقعت تقارير مجلس الاستخبارات القومية الامريكية الأخيرة تفكك النظام الليبرالي العالمي خلال السنوات المقبلة. وهذا ما يؤكد ان الديمقراطية الامريكية في مأزق والليبرالية من ورائها تترنح.
تتجلى أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة في تزايد الدور الذي يضطلع به الجنرالات وعلو أصواتهم على صوت الرئيس وعلى سائر رجال السياسة. كما لا يمكن فهم، كيف لرئيس منتخب مثل ترامب أن يواصل رفض التسليم بنتائج الانتخابات واصراره على انها مزورة رغم دحض هذه المزاعم من قبل المحاكم وحكام ولايات ولجان فرز إعادة عدد الأصوات أكثر من مرة. وكذلك كيف لرئيس منتخب مثل بايدن أن يهدد بإخراج الرئيس من البيت الأبيض باستخدام الجيش.
وحتى قبل نتائج الانتخابات الرئاسية، فقد كشفت الديمقراطية الامريكية عن اختلالات جوهرية، منها السياسات التي طبقها ترامب بعد فوزه قبل أربع سنوات والتي تعارض بعضها مع مفاهيم الحرية والمساواة وحقوق الانسان التي يتغنى بها الامريكيون على أنها قيم أمريكية خالصة. فقد هاجم ترامب المسلمين والأفارقة وتوعد المهاجرين غير الشرعيين بترحيلهم من أمريكا، وواصل دون انقطاع الثرثرة المليئة بالأكاذيب والمعلومات المضللة، واستمر في التهجم على وسائل الاعلام والمحاكم والمعارضة السياسية، واساء استخدام سلطته الرئاسية والتقديرية لتحقيق مكاسب سياسية ومالية وميثاق بدعم الجماعات اليمينية والعنصرية المتطرفة.
لقد التزم ترامب بهذه السياسات وطبقها من دون أن تقوى الديمقراطية الامريكية ومؤسساتها على ردعه وضبط سلوكه.
ومن غرائب الأمور أن هذا الرئيس رغم كل ما ارتكبه من أخطاء وخطايا يحصل على أكثر من 75 مليون صوت، أي أكثر من الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات التي فاز بها، رغم فشله الذريع في مكافحة جائحة كورونا، وتسببه من خلال الإهمال والاستخفاف بتفشي الجائحة وسقوط ضحايا بمئات الآلاف.
علامات الاضمحلال السياسي تتمثل في تنامي الاستقطاب وانعدام الثقة والتعصب بين انصار الأحزاب المتعارضة الرئيسة، وحدوث تداخل بين الانتماءات الحزبية والهويات العرقية او الدينية والافتقار الى القدرة على صياغة تسويات سياسية وتنظيم استجابات سياسية فعالة تجاه القضايا الوطنية.
لقد انحدرت الديمقراطية الامريكية والغربية عموماً خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في ظل إدارة ترامب الى درك لم تعد معه قابلة لأن تحتذى، وعلى شعوب العالم أن تستلهم نموذجاً جديداً تقترن فيه الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية، تبنى على أفضل ما في نماذج الديمقراطية التي عرفتها البشرية واختبرتها لبناء صرح من الديمقراطية الشعبية تحترم إنسانية الانسان وتوفر له احتياجاته الأساسية المادية والروحية، وتصون كرامته وتسمح له بأن يفجر طاقاته الخلاقة وامكاناته وبدون بناء هذا الانسان، لا يمكن تصور مجتمع ديمقراطي مدني حر ومتحرر.