لا زالت انتهاكات حقوق الصحفيين حول العالم واستمرار احتجاز المئات منهم في السجون والمعتقلات لأسباب تتعلق بعملهم المهني وقيامهم بتغطية محايدة وموضوعية ومهنية للأحداث الجارية في مناطق العالم الساخنة، تثير قلقاُ واسعاً لدى المنظمات المعنية بالدفاع عن الحريات الصحفية والإعلامية، والتي دأبت مع نهاية كل عام بإصدار تقارير وافية ترصد هذه الانتهاكات لحرية العمل الصحفي والإعلامي، وتسعى لخلق رأي عام عالمي ضاغط على جميع الحكومات التي لا تحترم ولا تلتزم بمعايير الحريات الصحفية والإعلامية للتراجع عن هذه السياسات والتدابير الزجرية والقمعية والتوقف عن اعتقال الصحفيين ما داموا يقومون بعملهم وفق مقتضيات تنوير الرأي العام بالحقائق الموضوعية وقطع دابر المظالم العديدة التي يتعرض لها المواطنون على يد الأنظمة القمعية المعادية للديمقراطية وحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية وفي مقدمتها حرية التعبير عن الرأي بجميع الأشكال التي تقرها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات العلاقة.
ومع ذلك قراءة التقارير الدولية المتعلقة بانتهاك منظومة حقوق وحريات العمل الصحفي مع بعض الحذر والتحفظ. إذ يحدث أن تتضمن هذه التقارير إشارات سريعة للانتهاكات التي تحصل في بعض البلدان، في حين يتم تضخيم هذه الانتهاكات في بلدان أخرى وبشكل متعمّد. وغالباً ما تكون هذه الإشارات غير المنصفة التي تحيد بدرجة ما عن الموضوعية والعدالة والحياد تتعلق بحكومات وأنظمة دول تتخذ مواقف سياسية وتتبع سياسات اقتصادية واجتماعية لا تروق لواشنطن وتسعى للاحتفاظ بمسافة قد تقصر أو تطول عن نهج وسياسات الدوائر الامريكية الحاكمة التي تتصف بالتدخل الفظ في الشؤون الداخلية لجميع دول العالم دون استثناء وبإملاء سياسات ومواقف تتعارض مع المصالح الوطنية لهذه الدول، بما في ذلك اجبارها على الالتزام بالعقوبات الاقتصادية التي تقرها الإدارة الامريكية بعيداً عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
إن هذه الملاحظة العابرة لا تفقد التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية المدافعة عن حقوق الانسان بشكل عام والصحفيين بشكل خاص – ما دامت هذه الأسطر مكرسة لها تحديداً – أهميتها ودورها في توعية الرأي العام بالمخاطر التي يتعرض لها الصحفيون والاعلاميون حول العالم، بما في ذلك الاعتقال والتصفية الجسدية والاغتيال والقتل العمد.
أشار التقرير الأخير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” الصادر قبل بضعة أيام (14/12) أن عدد الصحفيين المعتقلين وصل لغاية الآن الى 387 شخصاً، وهو عدد مقارب الى عدد المعتقلين في العام الماضي 2019. ويؤكد التقرير أن أكثر من نصف هؤلاء معتقلون في خمس دول فقط هي على التوالي الصين، السعودية، مصر، فيتنام ثم سوريا. طبعاً يقصّر التقرير عن ذكر الأسباب التي دفعت السلطات الى اعتقال هؤلاء الصحفيين، هل لأسباب تتعلق بممارسة المهنة الصحفية والإعلامية بقضايا النشر، أم لأسباب أخرى. إذ يمكن أن تلجأ بعض أجهزة الاستخبارات لتوظيف الصحفيين في أعمال تتناقض تماماً مع طبيعة نشاطهم ومهامهم، وخاصة في البلدان التي للولايات المتحدة حضورٌ عسكري وأمني ينشد قلب أنظمة الحكم القائمة في هذه البلدان وتنصيب أنظمة بديلة مستعدة للعمل تحت هيمنتها والانخراط في تنفيذ مخططاتها. هذا ومن الجدير بالذكر أن هذا التوظيف قد حصل أكثر من مرّة، وهناك العديد من الشواهد على ذلك.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، ردّت السلطات الصينية على الحملة التي طالتها بسبب توقيف صحفية صينية تعمل لحساب وكالة أنباء بلومبيرج الامريكية بأن التحقيق مع هذه الصحفية يتعلق “بالاشتباه بأنها تنخرط في نشاطات ذات طابع اجرامي يهدد الأمن القومي للبلاد بموجب القوانين المعمول بها”.
وهنا يجب التأكد هل فعلاً ارتكبت هذه الصحفية نشاطاً يهدد الأمن القومي؟ أم أن الأمر لا يعدو فبركة للتهم بهدف قمع أي انتقاد بحجة تهديد الأمن القومي!!.
ويلفت الانتباه أن التقرير الصادر عن لجنة حماية الصحفيين التي تتخذ من نيويورك مقراً لها أن اتساع نطاق توقيف واعتقال الصحفيين يعود الى “غياب قيادة عالمية فيما يتعلق بالقيم الديمقراطية”. كما أنحى التقرير باللائمة على الهجمات المتكررة التي يشنها الرئيس الأمريكي ترامب على وسائل الاعلام والتي عدها التقرير بأنها – أي الهجمات – قد وفرت غطاءً للحكام المستبدين في العالم لممارسة القمع ضد الصحفيين في بلدانهم.
إن مواصلة مختلف حكومات العالم اتخاذ مواقف عدائية من الصحفيين والإعلاميين يهدف للتغطية على السياسات اللاشعبية التي تسعى لتمريرها بأقل درجة من الاعتراض الشعبي عليها، والتقليل ما أمكن من مقاومتها والتصدي لها.