لا غرابة في أن يقفز أي خبر له علاقة بالمعارض الروسي نافالني الى صدارة التغطيات الصحفية والإعلامية الغربية، الأوروبية والأمريكية، لأن أي حدث يمكن أن يتسبب في زعزعة استقرار روسيا، ويحرف اهتمامها عن حل القضايا الملحة التي تواجهها يعتقد الغرب انه يصب في مصلحته ويخدم أهدافه قريبة وبعيدة المدى. وهنا تتجلى بصورة جلية المعايير المزدوجة التي تعتمدها دوائر صنع القرار في الغرب الامبريالي، والانتقائية الواضحة في التعاطي مع الاحداث، فهي تعمد الى تسليط بقع ضوء قوية على جوانب وتجاهل أخرى، حتى لو كانت الأولى قليلة او عديمة الأهمية، والثانية عكسها تماما.
ففي ضوء هذه المعايير المزدوجة والانتقائية يصبح نافالني “مناضلا” من أجل الحرية و”ضحية” لاستبداد السلطات القمعية الروسية، ويجري تماما التغافل عن أن منظمي المظاهرات التي تطالب بإطلاق سراحه لم يتقدموا للسلطات الروسية بطلب الحصول على تصريح، كما تقتضي القوانين المرعية، وفي نفس الوقت توجيه انتقادات شديدة اللهجة للسلطات لقيامها بحظر هذه التظاهرات واعتقال قادتها ونشطائها. وفي الوقت الذي يتم فيه ابراز مظاهر العنف والقسوة من جانب رجال الامن، يتم تجاهل الاعتداءات المقصودة والمتكررة والتي سجلتها عدسات كاميرات ممثلي وسائل الاعلام المحايدة، وليس فقط القريبة من السلطة، من جانب بعض المتطرفين المشاركين في المظاهرات على رجال الامن.
ومع ان الانتقادات لروسيا لسجلها غير الناصع في مجال حقوق الانسان وحرياته الأساسية ليست دائما بدون سند، غير أن حرية التعبير عن الرأي بشتى الوسائل ليس فقط مكفولة في التشريعات الروسية ذات الصلة، بل ويجري الالتزام بها الى حد بعيد. والانتهاكات الحاصلة في هذا المجال ليست على الاطلاق أكثر مما هو حاصل في ما يسمى بـ “العالم الحر” على مرأى ومسمع وسائل الاعلام المختلفة.
طبعا الضجة المثارة حول نافالني ليست إعلامية فقط، بل تنطح، ولا زال يتنطح لتأجيجها أيضا رؤساء دول وحكومات البلدان الأوروبية الغربية الرئيسة وقادة حلف الناتو، الذين واصلوا التأكيد، منذ اليوم الأول بان نافالني تعرض للتسميم بغاز نوفيتشوك بتعليمات مباشرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتخلص من معارض شرس له، دون تقديم أي دليل ملموس يعتد به يسند هذا الاتهام، ودون اعارة ادنى اهتمام لنفي المسؤولين الروس المتكرر له، ودون الالتفات لتقدير علمي أوضح أن صحة نافالني قد تكون تدهورت، اثناء تواجده بسبب نظامه الغذائي أو الضغط النفسي أو الإجهاد أو الحمى، وليس بالضرورة نتيجة تعرضه لغاز الاعصاب.
إن مواصلة قادة نافذين في عواصم غربية، انضم اليهم وزير الخارجية الأمريكي الجديد بلينكن، النفخ في قضية نافالني، ومطالبة السلطات الروسية اطلاق سراحه فورا دون انتظار قرار المحكمة المختصة، ومواصلة توجيه الانتقادات اللاذعة لسلوك الحكومة الروسية بصورة تتصف بالتحامل والعدائية، يتجاوز مجرد السعي لإنصاف معارض تتعرض حقوقه وحرياته للانتهاك بسبب آرائه المعارضة، او لاحياء عدالة مغيبة في روسيا، كما يحلو لوسائل الدعاية الغربية التشدق بهذه الافتراءات وسواها، الى محاولة مكشوفة لاستغلال نافالني وما يتعرض له لأسباب ليس لها صلة بآرائه السياسية، بل بتهم تتعلق بالفساد سيبت القضاء في صحتها، لمواصلة التدخل في شؤون روسيا الداخلية وتوتير الأجواء معها والسعي لابتزازها في قضايا اقتصادية وسياسية منها، مشروع خط انابيب الغاز نورد ستريم-2 الذي سيوصل الغاز من روسيا الى المانيا وقارب العمل فيه على الانتهاء. وليس صدفة ان يدعو وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، كليمان بون، ألمانيا إلى التخلي عن مشروع “نورد ستريم 2” المشترك مع روسيا على خلفية المظاهرات المتعلقة بالمعارض الروسي أليكسي نافالني.
قضية نافالني لا تستحق، على ما نظن، كل هذه الضجة ما لم تكن تخدم اغراضا سياسية واقتصادية معينة. وهناك عشرات القضايا الساخنة والمشكلات الحادة التي تواجه العالم بأسره تقتضي من دوله التعاون والبحث عن حلول مشتركة لها، ومنها المشاكل المرتبطة والناجمة عن تفشي جائحة كورونا. وقضية نافالني، أيضا، لا تقترب في أهميتها من قضية الإعلامي اسانج الذي لولا سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية الامريكية لتم تسليمه للولايات المتحدة، وسط صمت مطبق من الحكومات والمسؤولين الغربيين، ومن دون ان تشعر بتأنيب ضمير من إمكانية تعرضه لغبن فاضح وللمكوث لسنوات طويلة مديدة في السجون الامريكية بسبب آرائه السياسية، وتجرؤه على كشف الجرائم التي ارتكبتها القوات العسكرية الامريكية ابان حروبها العدوانية في العديد من بقاع العالم.
مصدر الاهتمام والرعاية الغربية لنافالني ولذلك الجناح من المعارضة الروسية الذي يقوده يكمن في أن هذا الجناح بالذات يجسد نقطة التقاء مصالح دوائر الاستخبارات الغربية مع مصالح ذلك التيار من الطغمة الروسية الحاكمة والدوائر المحيطة بها والقريبة منها، الذي لا تروق له التوجهات السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية للرئاسة الروسية، غير المستعدة لتسليم روسيا مجددا بالجملة والمفرق للاحتكارات الامبريالية عابرة القومية، وللتسليم مرة أخرى للحكومات التي تجسد مصالحها بحقوق وامتيازات ومواقع نفوذ تتعارض مع مبادئ الشرعية الدولية والندية والاحترام المتبادل والتكافؤ، ولا للتراجع تحت ضغط العقوبات الاقتصادية، والتمدد العسكري لحلف الأطلسي لمناطق كانت جزءا من الفضاء السوفياتي، والتهديد بالعودة الى سباق التسلح، والعسكرة والمواجهة الى حقبة تسعينيات القرن الماضي، حين تنكرت فيها القيادة الروسية للتراث الثقافي والحضاري للشعب الروسي ووضعت مقدراته الاقتصادية وثرواته الطبيعية تحت تصرف الشركات الاحتكارية العالمية وفي حوزة نهمها الشره للنهب والسرقة وتحقيق مزيد من الاثراء على حساب الشعب الروسي وجهده وانجازاته في مختلف المجالات على مدى عقود عديدة.
تلتزم الدوائر الغربية التي تتبنى قضية نافالني الصمت المطبق حيال توجهاته وآرائه السياسية، ليس لانها تعارضها، بل لأن هذه الآراء لا تحظى في روسيا بأي شعبية، ولا تحظى في الغرب نفسه الا بدعم التيارات اليمينية الشعبوية وانصار الفاشيين والنازيين الجدد المعادين للمهاجرين من منطلقات عنصرية.
فمن المعروف ان نافالني قد دعا في تصريحات علنية الى تشديد القيود على الهجرة من جمهوريات اسيا الوسطى الى روسيا، والى ترحيل أي شخص يثير المشاكل، كما طالب بإزالة القيود على حيازة الأسلحة في روسيا. وفي عام 2007 اصبح نافالني من دعاة “القومية الروسية الجديدة” وتبوأ لاحقا موقع الرئيس المشارك لحركة “الشعب” القومية الديمقراطية، وفي عام 2013 اعرب عن تأييده للتيار اليميني الذي شارك في اضطرابات ذات الدوافع العنصرية التي شهدتها احدة مناطق العاصمة الروسية موسكو. وهنا علينا مقاربة هذه الطروحات من زاوية حساسيتها الشديدة لدولة اتحادية متعددة القوميات والاعراق، وهناك العديد من القواسم المشتركة التي تربط بعض مكونات الشعب الروسي مع شعوب اسيا الوسطى التي طالتها تعبيرات النزعة القومية المتطرفة لنافالني وانصاره.
بنى نافالني رصيده من الشعبية على طروحات متنوعة لم تكن كلها يمينية، وإن بقي على الدوام مخلصا ووفيا لها. ففي عام 2013 سعيا منه لاجتذاب الشباب الذين التزموا صفوف اليسار، خفف من نبرته اليمينية، وشاطر الشباب اراءهم بخصوص انتقاد الأوضاع السائدة في روسيا، وفي عام 2018 طرح برنامجا انتخابيا حمل طابعا ليبراليا، كخفض الضرائب على الشركات الصغيرة.
ومؤخرا صعّد نافالني من انتقاداته للرئيس الروسي بوتين متهما إياه بأنه “يمتص دم روسيا” عبر “دولة اقطاعية” تحصر وتركز السلطة في الكرملين، في حين اعتبر حزب “روسيا الموحدة” الذي يتزعمه بوتين بأنه يغص بـ “المحتالين واللصوص”.
إن الآراء التي يعرب عنها نافالني او المقربين منه لا تحظى دوما حتى بتأييد الأجنحة المختلفة داخل المعارضة الروسية الليبرالية، التي غالبا ما دفعتها الآراء المتطرفة لنافالني الى الانفضاض عنها، وكانت مدعاة لتشبيهه بالزعيم النازي هتلر، ناعتين اياه مباشرة بالفوهرر.
ولكن اليوم نجد أن اطراف المعارضة الليبرالية تلتف من جديد حول نافالني. والتفسير الأكثر رواجا لهذه الانعطافة يتجه للدعم الصريح الذي يحظى به نافالني من جانب الدوائر الرسمية الغربية، التي تقاطر دبلوماسييها المعتمدين في موسكو لحضور جلسة المحكمة كتظاهرة تأييد لنافالني.
مصدر قوة نافالني لا يكمن ولا ينحصر في التأييد الغربي له فقط، بل وفي التفاف شريحة (لا زالت محدودة العدد، لكنها ممتدة على نطاق 147 مركز مقاطعة ومدينة وبلدة روسية) من الساخطين والناقمين على الأوضاع المعيشية الصعبة السائدة في روسيا، وعلى الفساد المستشري في أوساط الطبقة السياسية، وعلى مظاهر الثراء الفاحش لدى النخبة الحاكمة والمتنفذة في البلاد، وعلى تضخم ثروات طبقة الأثرياء الروس الجدد، حول الشعارات المنددة بكل هذه الأوضاع التي يطلقها نافالني من حين لآخر.
مصير نافالني حُسم. ففي ضوء التهم الموجهة اليه، وفي ضوء الحكم الصادر بحقه مع وقف التنفيذ قبل فترة في قضية اختلاس صدر الثلاثاء 2/2/2021 حكم بسجنه ثلاثة أعوام ونصف، وهي نفس المدة التي حكم عليه بها عام 2014 مع وقف التنفيذ ولكن هل هذا الحكم سيوجه ضربة لحراك المؤيدين لنافالني ويقعدهم عن العمل لاعادة تجميع الصفوف ورفع درجة الجاهزية والاستعداد لتحقيق انجاز في انتخابات مجلس دوما الدولة (البرلمان) في أيلول القادم ؟ الأسابيع القادمة ستحمل الإجابة على هذا السؤال!.