حاتم تقي الدين
في استشراف للمستقبل وتوقع للأزمات والاستعداد لها خلال أزمة الكورونا وما بعدها، تتصدر طروحات الركود أو ما يسمى بالانكماش الاقتصادي، الذي بدأت تداعياته وارتداداته تضرب في مختلف نواحي حياة المواطن الأردني. إذ أنه من المتوقع في المستقبل القريب أن ينضم الآلاف الى فئة المتعطلين عن العمل والإنتاج مما يعني اتساع دوائر الفقر وزيادة في اعداد المحتاجين للمساعدة وفي مقدمة هذا وذاك هناك قراءة مبكرة لمرحلة قادمة تتصدرها أزمة الغذاء عالميا ومحلياً لتهدد بالجوع آلاف المواطنين والمزارعين سواءً بسواء.
والملفت للنظر أن عدداً من المسؤولين وعلى أعلى المستويات وكأن الدنيا “قمرة وربيع” يتسابقون في طروحاتهم الطوباوية لمعالجة الوضع ظناً منهم أنه من الممكن أن يصبح الأردن “مركزاً اقليمياً للغذاء” وذلك بمفهوم لنجعل الأردن يأكل مما يزرع ويستخدم الفائض لتأمين ما لا ينتج محليا وكأننا قطعنا شوطاً كبيراً في معالجة اختلالات القطاع الزراعي.
الا أننا وبنفس المفهوم نعلم بأن هذه النبوءة لا يمكن أن تتحقق الا إذا منعنا استيراد ما هب ودب وحجرنا على تعليمات منظمة التجارة الدولية، المعلم و”الماسترو” في فتح وتطبيق نهج الأسواق المفتوحة بين البلدان والسماح بالاستيراد وانسياب السلع… وللعلم وفي هذا السياق فان الأردن استورد مواد غذائية خلال أزمة الكورونا بما قيمته 1.5 مليار دولار ومنها الزيوت والأرز والسكر والبقوليات واللحوم والمعلبات وغيرها، كما قامت الدولة بتأمين وتسهيل القروض لمستوردي المواد الغذائية من البنوك التجارية وبدون أي ضمانات في حين أن المزارعين يعانون الأمرين للحصول على القروض علماً بأن المزارع والأرض هما “المخزون الاستراتيجي الحقيقي للغذاء”.
وعودة الى قصة مركزاً اقليمياً للغذاء: فانه الحلم الذي نرغب فيه ونتمناه ويوماً ما سيتحقق بقدر ابتعادنا ما أمكن عن مخططات وطروحات البنك الدولي وبرامج الخصخصة وتحللنا من قيود اتفاقية التجارة الحرة وبرامج التصحيح الاقتصادي ومتوالياته الهندسية التي أفضت لبيع كافة المرافق الضرورية للقطاع من هناجر ومحطات تعبئة وتدريج وعيادات بيطرية ومصانع وشركات حكومية كانت فيما مضى تشكل مظلة لهذا القطاع.
وعودة الى العنوان ما هو المطلوب من الموسم الزراعي الجديد؟! فالمطالب لا حصر لها ولا حدود في قطاع الزراعة لأن كل مفاصل هذا القطاع أصابها الوهن والضعف والتراجع في أداء وظائفها المعهودة:
– فالزراعة عموماً عمادها الانسان الذي ما عاد قوياً مادياً وجسدياً للقيام بكافة الأنشطة المطلوبة بدءاً من الحراثة وتحضير الأرض للبذار والزراعة والسقاية والرش والقطف والتدريج والتغليف والنقل من باب المزرعة للأسواق المركزية جميعها شكلت هذه الأنشطة وبكل أعبائها وتبعاتها حملاً أثقل كاهل المزارع، وهذا حمل لا يقوى عليه منفرداً في ظل غياب الجمعيات والجمعيات التعاونية وغيرها من تنظيمات العمل الجماعي. فمحطات الميكنة الزراعية المزودة بمختلف الآلات والمعدات والجرافات تساهم في تحريك وتسهيل العمليات الزراعية وهي مطلب هام وضروري للقطاع في مختلف مناطق الاغوار والمحافظات. وفي هذا السياق نود أن نذكر المسؤولين بأن الحكومة اليابانية وفي منتصف ثمانينات القرن الماضي قدمت منحة للأردن بعشرات الملايين من الآلات والمعدات الزراعية وعوضاً عن استخدامها في فتح محطات ميكنة زراعية علاها الصدأ وبيع ما تبقى منها بأقل الأسعار وأبخسها. إن محطات الميكنة الزراعية كانت وما زالت مطلباً هاماً للمزارعين فماذا أعددنا…لعل وعسى!
– أما المياه وفي ظل وضع مائي هو الأفقر عالمياً وأمام توقع وزحف عمراني غير مسبوق خلال العقود الأخيرة على الأراضي الزراعية رافقه عجز فاضح في شبكات الصرف الصحي ومعالجة المياه العادمة، إذ أن غالبية أحياء مدن الأردن كعمان والزرقاء واربد والمفرق والكرك وغيرها ما زالت تتعامل مع استخدام الجور الامتصاصية، وعلى ما يبدو أن هذا الوضع سيطول وسنفقد معه ملايين من المياه التي يمكن معالجتها لترفد قطاع الزراعة بحاجته منها. أين مليارات ولا أقول ملايين المنح الألمانية وعلى مدى أكثر من أربعة عقود قدمت للأردن؟! كأن الأمر بدأ وانتهى بـ “الخربة السمراء”.
– أما الكهرباء وعلى لسان مدير مؤسسة الإقراض الزراعي فان استخدام الطاقة الشمسية في المزارع سيؤدي الى تخفيض ما مقداره 25 الى 30% من الكلف التشغيلية للمزارعين، وفي نفس السياق تظهر المعلومات ومن نفس المصدر أنه ومنذ عام 2014 استفاد 140 مزارعاً فقط من هذه التقنية في حين أن هناك الآلاف والآلاف بأمس الحاجة الى الطاقة الشمسية. فالمدخل لاستخدام الطاقة الشمسية ليس منوطاً بقروض المؤسسة فقط لا بل على وزارة الطاقة والثروة المعدنية مهام كبيرة للترويج والتأهيل للمزارعين والمزارع لاستخدام هذه التقنية.
– مدخلات الإنتاج: فالبذور والأسمدة والمبيدات تشكل معاناة كبيرة للمزارعين من حيث أسعارها وجودتها أو الحصول عليها، إذ لا تتوفر السيولة النقدية مع المزارع الأمر الذي يضعه تحت رحمة التجار والكوموسينجية وتجار السوق المركزي والشركات الزراعية. ففي سنوات بعينها أو فصول زراعية بحد ذاتها لا بد أن تتدخل الدولة بأجهزتها المعنية لتسهيل حصول المزارعين على مدخلات الإنتاج الرئيسة التي أشرنا اليها.
– المعابر والحدود وانسياب السلع: ان معالجة انسياب السلع وخصوصا الخضار والفواكه عبر الحدود والمعابر لا يقل أهمية عن كافة ما ذكر سابقاً. فالمعابر والحدود وانسياب الخضار والفواكه الأردنية لدول الجوار عموما والسوق السوري خصوصاً كانت وما زالت عرضة لبارومتر التجاذبات والعلاقات السياسية في كثير من الأحيان. وأخيراً توّجها المسؤولون الأمريكان: إياكم… إياكم…لانسياب السلع بما فيها الخضار والفواكه من الأردن للسوق السوري أو العكس. وللعلم فان السوق السوري كان يستوعب 50 % من انتاج وادي الأردن، هذا الوادي الذي ينتج ويصدر ما بين 2000 – 2500 طن خضار وفواكه يومياً خلال الموسم الذي يمتد من تشرين أول ولغاية شهر أيار. وأن 8200 براد لنقل الخضار والفواكه الأردنية ما زالت متوقفة عن العمل ومنذ سنوات نتيجة لبارومتر التجاذبات والعلاقات السياسية وأوامر “العم سام”. لماذا هذا السوق وغيره ما زال مغلقا؟! يتساءل المواطن والمزارع سواءً بسواء.
– الاستراتيجيات: وعلى هامش الاستراتيجيات الوطنية الزراعية فقد أوسعتنا الحكومات جميعها جلداً وضرباً ووعداً ومنذ عقود باستراتيجية تلو الأخرى، وأخرها الاستراتيجية الزراعية ولغاية عام 2025 التي وصفها خبراء في القطاع “من أنها لا تتوافق مع رؤى القطاع والأمن الغذائي”. في الوقت الذي أكد فيه نائب رئيس وزراء ترك الحكومة مؤخراً وفي مقال له في جريدة الرأي حول “الإدارة المالية للدولة والحوار الوطني المطلوب لتحسينها” أن القطاع الزراعي وعلى مدى عقود في تراجع مستمر. فالقطاع بحاجة الى أفعال تعيد له موقعه الطليعي وكفى تنظيراً تحت مسمى الاستراتيجيات ملأنا بها الرفوف والأدراج ليعلوها الغبار واحدة تلو الأخرى.