نجحت الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً في ارغام الإمارات والبحرين والسودان والمغرب على توقيع وثائق التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيونية. ومن المعروف أن واشنطن بذلت جهوداً مستمرة وملموسة لتحقيق هذا الهدف، باعتباره المدخل الضروري لبناء شرق أوسط جديد وسوق شرق أوسطية.
وقابلت الجماهير في البلاد العربية والعديد من الدول الإسلامية هذه الخطوة بغضب واستنكار شديدين، ورأت فيها هجوما بشعاً على الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني وضربة مؤلمة لحركة التحرر الوطني العربية.
وقبل خطوات التطبيع هذه عقدت الولايات المتحدة مؤتمر المنامة الاقتصادي في البحرين وألزمت العديد من الدول العربية على حضوره بوجود وفد إسرائيلي رفيع المستوى وتحت اشراف كوشنير مستشار الرئيس الأمريكي السابق ترامب. ومن الجدير بالذكر أن تصريحات بعض الدول العربية التي شاركت في هذا المؤتمر، وحاولت التقليل من أهميته ومن أهمية مشاركتها فيه لم تكن كافية أبداً لتبرير رضوخها المشين للضغوط الأمريكية.
وتأتي هذه الخطوات في إطار بناء شرق أوسط جديد وسوق شرق أوسطية لأن نظام الشرق الأوسط الإقليمي الجديد يقع في صلب السياسة الامريكية لأجل إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وسد الطريق أمام أية احتمالات لتبديل موازين القوى قد يلحق الضرر أو الخسائر للمصالح الامريكية. ومن المعروف أن إسرائيل هي الحارس الرئيسي والهام جداً للمصالح الأمريكية في المنطقة، ولذلك تحظى بحماية ودعم كبير من الإدارات الامريكية المتعاقبة.
وهكذا فان في مقدمة أهداف الشرق الأوسط الجديد الاعتراف بإسرائيل كدولة شرق أوسطية وتأهيلها لقيادة المنطقة اقتصادياً وعسكرياً، ناهيك عن ضرورة تعميق قدراتها التكنولوجية. ومن هنا تتضح أهمية السوق الشرق أوسطية ودورها المتقدم في مجمل سياسات الشرق الأوسط الجديد بالنسبة لكل من أمريكا وإسرائيل. لقد قال الرئيس بوش لدى افتتاح مؤتمر مدريد للسلام “فالسلام هو تعاون إقليمي ومعاهدات وعلاقات اقتصادية”، اما شمعون بيبرس فكان أكثر وضوحاً عندما أكد أنه “لا تسوية من دون قيام نظام شرق أوسطي جديد، ويواصل قائلاً “ان الاقتصاد هو الوسيلة الوحيدة لإخماد نيران المواجهة العسكرية، وخلق أرضية مشتركة بيننا وبين دول المنطقة، إن شرق أوسط جديد تكون حدوده مفتوحة على أساس برامج تطوير إقليمية هو وحده الذي يستطيع نقل قضية الحدود والمناطق الى شيء أقل أهمية مما يبدو عليه اليوم”. ويطالب شمعون بيرس إقامة سوق شرق أوسطية على أساس السياحة والمياه كما قامت السوق الأوروبية على أساس الفحم والصلب. ومن الملاحظ أن الأمريكيين والإسرائيليين على السواء يريدون قطع الطريق امام احتمالات نهوض حركة التحرر العربي، امام استعادة الحقوق المشروعة وأمام قيام روابط قومية.
وبهذا الخصوص صرح ابراهام تامبر رئيس جامعة بئر السبع، والذي يحتل موقعاً متقدماً في الأوساط السياسية الرسمية قائلاً “السلام يجب أن يكون وثيق الصلة بإطار إقليمي لا قومي للاقتصاد. وفقط في إطار كومنولث سوقاً مشتركة وحدوداً مفتوحة سيكون المفتاح للوصول الى حل بشأن الحدود بين إسرائيل وجيرانها. ويعتبر البعد الاقتصادي للتسوية في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية أهم وأخطر أبعاد هذه التسوية والركن الرئيسي للسلام القادم وفق التصورات الإسرائيلية، لأنه حسب رؤيتهم فان الاتفاقات والمعاهدات السياسية والترتيبات الأمنية لا تكفي لتحصين السلام على المدى البعيد. لأن السلام القائم على المعاهدات والاتفاقات نوع من السلام البارد، بينما إرساء السلام على قاعدة عريضة من الترتيبات الاقتصادية بين إسرائيل والبلدان العربية يفضي الى نوع من السلام الحي والديناميكي. وتهدف المخططات الامريكية والإسرائيلية الى الغاء أية احتمالات لتقارب قومي في المنطقة تضع بديلاً لتصورات التعاون الاقتصادي الإقليمي الذي تلعب فيه إسرائيل دوراً بارزاً. ويجري التأكيد هنا على دور القطاع الخاص لتكوين مصالح لطبقات وفئات في المجتمعات العربية يستخدم نقلها في تدعيم هذا السلام وحمايته.
وتنكشف الابعاد والخطوات الأولية للسوق الشرق أوسطية في حجم التأكيد على الجانب الاقتصادي في جميع الاتفاقات الإسرائيلية مع الجانب العربي ابتداءً من كامب ديفيد واتفاق أوسلو واتفاقية وادي عربة، حيث تعمل إسرائيل بكل قوة على ملاحقة وتنفيذ الجوانب الاقتصادية واهمال ما عداها، خاصة في الجوانب السياسية والجغرافية، حيث تستمر إسرائيل في تنفيذ سياساتها التوسعية وبناء المستوطنات وتوالي العدوان على الاسرى في السجون والمعتقلات وتلجأ الى مختلف السياسات العنصرية المعادية للمواطنين العرب.
ويؤكد علماء الاجتماع الإسرائيليون أنه يجب أن تبنى علاقات اقتصادية بين إسرائيل ودول المنطقة قوية ومتينة واساس لإذابة القضايا التي تفرضها الحدود والنظرة القومية الضيقة. ومن هنا يبدو واضحاً أن إصرار أمريكا على فرض التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل دون الدخول في أي بحث لتسوية القضية الفلسطينية، انما يعني نسف جميع القرارات الدولية وإلغاء جميع الاتفاقات العربية بهذا الخصوص التي تم التوصل اليها في مؤتمرات القمة، وتجاوز الخطة العربية بهذا الخصوص. ويأتي الدعم الأمريكي لهذا التوجه والمبادرة الامريكية في فرض التطبيع ليؤكد من جديد ان إسرائيل بدعم امريكي تعمل على تنفيذ “التطبيع قبل التوقيع”. ولكن خطة القرف التي طرحها ترامب تعني أكثر من هذا بكثير إذ أنها تتجاوز القضية الفلسطينية بشكل عام.
ومن هنا فان خطوات التطبيع التي فرضتها الولايات المتحدة على بعض الدول العربية، والعلاقات غير المعلنة بين دول أخرى وإسرائيل تعني بكل وضوح استسلام مكشوف من قبل الأطراف العربية المعنية وإدارة الظهر لمصالح الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ويلاحظ بكل وضوح ان الجانب الاقتصادي يتغلب على ما عداه من المواقف في العلاقة بين إسرائيل ودول التطبيع الجديدة، الأمر الذي يؤكد أن السوق الشرق أوسطية هي الفخ المنصوب لضرب حركة التحرر العربي والدوس على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ومن المفيد أن تتوقف هنا عند تأكيدات بعض الأطراف المعنية بالسوق الشرق أوسطية عندما تؤكد أن العلاقات والمصالح الاقتصادية المشتركة ضرورية لحماية السلام، بعد قيام هذا السوق، وذلك خوفاً من النهوض الذي لا بد منه عربياً وفلسطينياً لنسف المخططات المعادية للشعوب.