سعد عاشور*
بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية في اوروبا الشرقية، تبلور في أوساط الحركة الشيوعية العالمية تيار عزا هذا التفكك والانهيار الى أوجه قصور جوهرية في النظرية الاشتراكية نفسها، وليس الى اخطاء جسيمة ارتكبت في سياق عملية البناء الاشتراكي، والى التطبيق النصي للنظرية الماركسية-اللينينية والى نسخ تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي دونما مراعاة للسمات الوطنية والخصائص القومية الخاصة بكل بلد، واختلافها عن البلد الآخر. ودعا أنصار هذا التيار صراحة للتخلي عن النظرية الاشتراكية، وادخال تعديلات جوهرية في البنى التنظيمية والبرامج السياسية، وصولا الى تغيير اسم الحزب من حزب شيوعي الى حزب يساري ديمقراطي او يساري اجتماعي، او اشتراكي ديمقراطي …. الخ من الأسماء التي حملت دلالات واضحة اشارت الى الانسلاخ تماما ونهائيا عن الجوهر الماركسي والشيوعي لهذه الاحزاب.
ولم تكن هذه “اللوثة” الفكرية وتجسيداتها السياسية والتنظيمية حكرا على منطقة دون اخرى، بل طالت احزابا شيوعية وعمالية في مختلف دول العالم مخلّفة انقسامات حادة في الحركة الشيوعية والعمالية العالمية، مولدة حالة غير مسبوقة من الارتباك وتزعزع اليقين في أن الاشتراكية على النحو الذي تبدت عليه في مجالي النظرية والتطبيق قادرة ومؤهلة على أن تكون نظاما بديلا للنظام الرأسمالي الذي بدا وكأنه كسب جولة الصراع على مدى السبعين عاما ونيّف الأخيرة.
واجه حزبنا الشيوعي الأردني كغيره من الأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية، الاسئلة الشائكة والصعبة التي طرحتها انتكاسة تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وبلدان اوروبا الشرقية والوسطى، التي تباينت حيالها الاجابات، وطرائق التعاطي معها، مما اسفر عن اتخاذ التباينات الفكرية والسياسية تموضعات تنظيمية تماشت مع الظاهرة التي سادت على الصعيد العالمي بالانسحاب من الحزب الشيوعي وتشكيل احزاب جديدة بمرجعيات فكرية وبرامج سياسية وأسماء عكست التبدل في القناعات الفكرية والسياسية التي أملتها، من وجهة نظر انصار هذه التوجه، التبدلات العاصفة التي شهدها العالم مباشرة بعد سقوط جدار برلين.
ولكن، وُجد في صفوف الحزب الشيوعي الاردني المئات من الكوادر والقيادات الحزبية التي تمسكت بالنظرية الماركسية، وبمنهجها العلمي المادي الجدلي في تحليل الواقع وتفسيره، ومن ثم تغييره، وتشبثت باسم الحزب ورفضت تغييره، وأصرت على أن التغييرات التي يمكن ان تطال نظامه الداخلي وبرنامجه السياسي يجب ان تعكس بدقة ووضوح، كما كان الحال في السابق، قناعته التي لم يتسلل اليها الشك بأن الافق الذي يستشرفه الحزب في سياق النضال لانجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطيه هو الافق الاشتراكي، واعلنوا استمرار التبني الخلاق للنظرية الماركسية – اللينينية دونما تقديس للنص، وبمنأى عن اي جمود، او دوغمائية، ومخالفتهم رأي من اشار بأن اللينينة هي ظاهرة روسية صرفة، وان القوانين والسنن العامة التي اضافتها لفكر ماركس وانجلز في ظروف ارتقاء الراسمالية لمرحلتها الامبريالية لا تصلح بالضرورة لظروف بلداننا العربية، ومنها الأردن، وبالتالي يصبح من الجائز التخلي عنها !.
وانطلاقا من فهمه العميق لجوهر الماركسية- اللينينية، وتحليله لأسباب الانهيار، ولما املاه من ضرورات للتغيير واعادة النظر في بعض ما بدا قبل الانهيار وكأنه من المسلمات والثوابت، بالاعتماد على الأدوات والامكانات التي كانت متوفرة لديه، وآخذا بالحسبان الظروف والسمات الخاصة بالأردن، واستنادا الى تحليل الواقع والمستجدات التي طرأت عليه في ضوء تبني التحالف الطبقي الحاكم في البلاد للأفكار التي صاغتها مراكز الدراسات والأبحاث وكبار المفكرين البورجوازيين في الدول الامبريالية الرئيسة، وخاصة في الولايات المتحدة الامريكية، التي زعمت ان انتكاسة الاشتراكية التي كانت قائمة في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية والوسطى تؤكد على أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وأن الليبرالية الاقتصادية، والأسواق المفتوحة لانتقال رؤوس الأموال والسلع دون قيود حمائية، هو الخيار الوحيد الذي بات متاحا امام جميع دول العالم دون استثناء، فقد اعاد حزبنا الشيوعي الاردني صياغة نظامه الداخلي وبرنامجه السياسي، بما يتماشى مع كل هذه المتغيرات، ويستجيب لمتطلبات تعزيز دوره كحزب ماركسي متجدد، قادر ومؤهل لمواصلة النضال لمواجهة التحديات الجديدة التي يطرحها غياب الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، ونجاح قوى الثورة المضادة في الهيمنة على مقاليد الامور في هذه البلدان، الأمر الذي مكن النظام الرأسمالي العالمي وطروحاته على الصعد السياسية والاقتصادية – الاجتماعية من اكتساح مواقع جديدة ، والتأثير المتزايد والمتفرد على مسار التطورات في العديد من بلدان العالم، ومنها، بطبيعة الحال، بلدنا الأردن.
لقد انطلق حزبنا، الحزب الشيوعي الاردني، من حقيقة أن الانتكاسة التي تعرضت لها المنظومة الاشتراكية العالمية، لا تعني على الاطلاق هزيمة للنموذج السياسي الاقتصادي- الاجتماعي الذي قدمته ودعت الى تطبيقه ثورة اكتوبر الاشتراكية باعتبارها تجسيدا حقيقيا لأفكار ماركس وانجلز ولينين، وان الاخطاء التي وقعت وخاصة في السنوات التي تلت وفاة مفجر هذه الثورة العظيمة فلاديمير ايليتش لينين والتي حالت دون أن تتبين شعوب العالم كامل أفضليات النظام الاشتراكي وجوانب تفوقه العديدة على النظام الرأسمالي، لا تعني ان منظومة الحقوق الاجتماعية التي تحققت للشعوب القاطنة على مساحة شاسعة من جغرافية العالم، ومنها شعوب عاشت في ظل النظام الرأسمالي وليس الاشتراكي فقط، قابلة للنسيان او للانكار، وان شعوب العالم كافة، ستدرك بتجربتها الحية الملموسة، أن الرأسمالية بعد أن بانت طبيعتها المتوحشة في ظل تفردها بالهيمنة شبه الكلية على العالم، لن تؤمن لهذه الشعوب ما تتوق اليه من حرية وتحرر وعدالة اجتماعية وكرامة وطنية ، هذه القيم التي نقلها النظام الاشتراكي الذي كان متحققا، بصرف النظر عن الاخطاء والمآل، من حيز النظرية الى حيز التطبيق والواقع المعاش.
بالاستناد الى هذا الفهم تضمنت النسخة المعدلة من برنامج الحزب الشيوعي الاردني التي اقرت في أول مؤتمر حزبي عقد في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحليلا مسهبا للنهج والسياسات التي اعتمدها التحالف الطبقي الحاكم بالتشاور مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهما الذراعان الماليان والنقديان للهيمنة الكونية الرأسمالية على العالم، في اطار ماسمي برامج التصحيح الاقتصادي والتكيف الهيكلي، التي اشرعت الابواب لموجات متلاحقة من خصخصة قطاعات اقتصادية وخدمية شديدة الاهمية كانت ترفد خزينة الدولة بموارد مالية كبيرة، ولانسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وافساح المجال امام القطاع الخاص المحلي والأجنبي من الاشراف والتحكم في اسعار السلع والخدمات بعيدا عن أي رقابة من جانب الدولة التي تركت لقانون العرض والطلب أن يتحكم لوحده في الاسواق.
واستعرض البرنامج تسارع مسار الخصخصة على مدى عقد التسعينالت من القرن الماضي، واتساع نطاقه الذي بات يتهدد قطاعين هامين، هما قطاعا التعليم والصحة، وتواصل عملية تخلي الدولة بالتدريج عن التزاماتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، وقيامها بتعديل جميع القوانين الاقتصادية والمالية- النقدية والضريبية بما ينسجم مع متطلبات المؤسسات المالية والنقدية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) ومنظمة التجارة العالمية التي اقرت اتفاقية الانضمام اليها من قبل البرلمان خلال بضعة دقائق فقط. وتوصل برنامج الحزب الشيوعي الى استنتاج مفاده أن الدولة لم يتبق لها في ظل هذا النهج سوى وظيفة الجابي والحارس. جباية الضرائب وقمع اي تحرك شعبي في مواجهة هذا النهج وهذه السياسات المجحفة والممالئة لمصالح اصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، والهيمنة الامبريالية، وخاصة الامريكية، على البلاد ومقدراتها الاقتصادية والتحكم في التوجهات السياسية لمؤسسات الحكم والادارة القائمة فيها.
ويرى حزبنا ان هذا النهج الاقتصادي افضى التي تعميق الاختلالات المزمنة في الحياة الاقتصادية، والى تنامي العجز المزمن في الموازنة العامة، وارتفاع المديونية العامة للدولة بمتواليات هندسية اصبحت تتجاوز ال 95 % من الماتج المحلي الاجمالي، والي تعميق التبعية للمراكز الرأسمالية العالمية، ومؤسساتها المالية والنقدية، والى تحكم القطاع الخاص في حالة الأسواق وفي الاسعار.
ودأب حزبنا على التنويه بان تجاهل الدولة عن قصد وبحكم انحيازاتها لحقيقة ان الهم الأساس للقطاع الخاص يكمن في الحصول على الحد الأعلى من الربح دونما أدنى اعتبار لتأمين الحاجيات الأساسية للمواطنية بأسعار معقولة تضمن حدا معقولا من الأرباح، وخاصة في ظروف الأزمات، يفرض على الغالبية الساحقة من المواطنين تكاليف اضافية قد لا تكون في حوزتهم لتأمين احتياجاتهم واحتياجات اسرهم من المواد الغذائية الاساسية. وهذا ما يخلق للدولة حالة من الارتباك، واحساس بالعجز ناجم عن أن القطاع الخاص بموجب القوانين التي اقرتها مؤسسات الدولة المعنية نفسها تطلق يديه في التحكم بالأسعار دون أي تدخل. وحتى لو لجأت الى قانون الدفاع فهي لن تستطيع متابعة جميع التجار والزامهم باسعار معقولة. وتتجلى تبعات وعواقب تخلي الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية بوضوح في سياق اجراءات مواجهة اجهزة الدولة الاردنية لتفشي وباء الكورونا.
ولنا أن نتخيل كيف سيكون عليه الحال لو قامت الدولة بتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي والحاحه المستمر على ضرورة أن تتخلى الدولة عن دورها في مجال الصحة، وهو ما كان سينعكس سلبا بالتأكيد على قدرتها في تأمين الرعاية الصحية ومواجهة ظروف طارئة على النحو الذي تواجه به اليوم بنجاح مقدّر جائحة الكورونا. وبالقطع لن تكون قدرات الحكومة الاردنية أفضل أو انجع من قدرة دول رأسمالية متقدمة، هي في عداد مجموعة الدول الرأسمالية المتطورة السبع، على مواجهة جائحة الكورونا.
هذا في حين ان دولة مثل الصين استطاعت بنجاح مواجهة الجائحة بفضل افضليات نظامها الاجتماعي – الاقتصادي، وبتوظيف العلم والتقانة لفائدة الصالح العام، وليس لجني الارباح الطائلة على حساب المجتمع وعافية أبنائه. وهناك اعتراف واسع بان روسيا تنجح في الحد من انتشار وباء كورونا بفضل نظام مكافحة الأوبئة الذي ورثته عن الاتحاد السوفياتي. وها هي كوبا الاشتراكية التي تعاني من حصار جائر على مدى ستين عاما تتفوق على كثير من الدول الرأسمالية المتقدمة، بل على أغنى دولة امبريالية في العالم، الولايات المتحدة، في مجال مكافحة هذا الوباء القاتل، وتنجح في الحد من انتشاره، وتتجاوز ذلك الى تقديم الدعم والمساعدة لدول يستشري فيها هذا الوباء لشح الامكانات الطبية، وضعف الاستعداد المسبق لمواجهة هذه الجائحة.
ونعتقد جازمين أن النظام العالمي الذي تتفرد في الهيمنة عليه الولايات المتحدة الامريكية وتسعى بكل السبل الى تكريسه، قد فشل فشلا ذريعا في تأمين جهد جماعي لمواجهة وباء الكورونا العابر للحدود والقوميات والأعراق، وهو ما سيدفع الشعوب حول العالم لمقاومته بمزيد من العزم والاصرار، واسقاطه وصولا الى بناء عالم متعدد الاقطاب أقل وحشية واكثر عدالة، واكثر قدرة على حشد الطاقات والامكانات الجماعية لمواجهة كوارث تتهدد البشرية جمعاء ولا تقتصر على مكافحة الأوبئة، بل تتعداها للقضاء على أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الفقر والمجاعة على الصعيد العالمي، ويكفل لجميع الشعوب الحصول على الطعام والدواء والمياه الصالحة للشرب دون تمييز، ويؤمن لها فرصا متكافئة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية. كما يقتضي الوضع الناشيء شن اوسع هجوم مضاد يستهدف اعادة النظر في طبيعة النظام الرأسمالي العالمي، الذي يسمح لحفنة من المضاربين، والشركات الاحتكارية الكبرى العاملة، بما فيها المتحكمة في مجال انتاج الدواء والمستلزمات الطبية، بالتحكم في عمليات انتاج هذه السلع الاستراتيجية ومواصلة جني الارباح الطائلة، حتى لو ادى ذلك لقتل مئات الالاف، وربما الملايين، من كبار السن والفقراء وممن يعانون من أمراض مزمنة، لم يسمح نظام الملكية الخاصة المتحكم في الرعاية الصحية من تأمين العلاج اللازم لهم.
لقد تكشفت امام شعوب العالم قاطبة مظاهر القصور الفجة في النظام الرأسمالي العالمي، وتبدت بوضوح طبيعته المتوحشة، واستهتاره الفاضح بالانسان وانسانيته، وباتت مناهضته، بأممية الشعوب وتكاتفها وتضامنها، أكثر الحاحا من أي وقت مضى. لقد انبلج أمام الشعوب بأوضح ما يمكن أن يكون خيار آخر، خيار بديل لكل ما سعت حكومات الشركات الأالق والاعتبار بأنها البديل الحتمي لرأسمالية الاحتكارات المتوحشة.
*عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الاردني