أحد معالم الانهيار المريع والمتلاحق في الوضع العربي الراهن يتجلى بأكثر صورة بشاعة ومأساوية في تنامي الخلافات والصراعات المسلحة والدموية بين الأنظمة العربية، في حين يسارع جلّها الى الاحتماء بأعدائها بعد نزع صفة العداء عنهم، والصفح عن كل ما اقترفوه بحق البلدان والشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني من مجازر وتطاول على الحقوق وتدنيس للمقدسات وصولاً الى تبرئتهم من أي أطماع في الهيمنة على مقدرات منطقتنا العربية ونهب ثرواتها النفطية والغازية والتحكم في طرق انسياب هذه الثروات الى البلدان المستهلكة لها.
ومهما حاول المرء أن يجدّ في البحث عن ذريعة يبرر بها هذه الاندفاعة والهرولة باتجاه اشهار تطبيع الدول الخليجية وليس الامارات فقط، باستثناء الكويت، لعلاقاتها مع إسرائيل، فهو لن يجد منها ما يستقيم مع العقل السليم والمنطق القويم.
وغياب مثل هذه المسوغات والذرائع العقلانية والمنطقية يدفع على الاعتقاد بأن وراء هذا التطبيع المجاني خضوع لإملاءات واشتراطات من قبل الولايات المتحدة، الذي طالما كرر رئيسها وبكل صفاقة أن الأنظمة الخليجية لن تصمد اسبوعاً واحداً فيما لو رفعت الحماية الأمريكية عنها.
وهذا الكلام يتطابق تماماً مع حديث الحكومات الخليجية بأن أمريكا هي الضامن لاستقرار المنطقة. والمقصود هنا، على ما يبدو، استقرار أنظمة الحكم، لأن المنطقة، في الواقع، تفتقر الى الأمن والاستقرار منذ عقود عديدة بفعل تنامي العدوانية الأمريكية والتواجد العسكري الكثيف للجيش الأمريكي الذي استخدم قواعده المنتشرة في غير بلد خليجي لشن عدوانه على العراق، والمرشحة لأن تستخدم في أي تصعيد عسكري ضد إيران.
وهكذا فان الدول الخليجية تسعى لمقايضة أمن أنظمتها بالإذعان للمطالب الأمريكية التي تأتي في كل ما يتعلق بالمنطقة العربية متفقة تماماً وكلية مع الأهداف والأطماع الإسرائيلية وهذا ليس بالأمر الجديد.
وتؤكد العديد من المؤشرات أن تطبيع الامارات لعلاقاتها مع الكيان الصهيوني يأتي تلبية لحاجة أمريكية وأخرى إسرائيلية.
فالبيت الأبيض بحاجة قبل نحو شهرين مع انتخابات رئاسية ليست مضمونة النتائج بالنسبة لترامب الذي يعاني من مصاعب داخلية جدية الى انجاز ما يواجه به خصومه الديمقراطيين، ويستقطب بواسطته مزيداً من التأييد من جانب اللوبي الموالي لإسرائيل. أما نتنياهو فهو في أمس الحاجة الى هذا التطبيع لأنه يستجيب لأطماع إسرائيل في التوسع والهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يسكت الأصوات التي تتعالى في أوساط اليمين العنصري والاستيطاني التي تشكك في زعامته لمعسكر اليمين وتنازعه هذه الزعامة.
ومهما حاولت الحكومات الخليجية تصوير الأمر على نحو مغاير، وعلى أنه قرار سيادي خالص، يستجيب للمصالح الوطنية ويتماشى مع مصلحة فلسطينية بوقف الضم، فقد تكفل نتنياهو نفسه بدحض هذه الادعاءات بالقول ان كل ما جرى لا يغدو أن يكون تعليقاً للضم وليس وقفه.
وفيما يتعلق بتأكيد المسؤولين الاماراتيين ان توقيع ما يسمى بـ”اتفاق أبراهام” التطبيعي يأتي انسجاماً مع قناعة راسخة لديهم بأن السلام هو خيارهم الاستراتيجي، وان الاتفاق لا يعني التخلي عن الشعب الفلسطيني وحقوقه، يجب التنويه أن التأكيد على أن السلام هو خيار استراتيجي بالنسبة للأنظمة العربية كلام ليس فيه أي جديد. والجوهري هنا، ما هو صدى ترديد التمسك بهذه الاستراتيجية لدى الطرف الآخر وهو الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي الوحيد – الكيان الإسرائيلي، الذي رد على ذلك مراراً وتكراراً بأفعال وأقوال فضحت طبيعته العدوانية المتأصلة، وعرّت كراهيته العنصرية لما يصفهم بـ “الأغيار” أي غير اليهود، والعرب في مقدمتهم.
ففي أعقاب توقيع السادات اتفاقية السلام، تجرأ مناحيم بيغن على احتلال أول عاصمة عربية هي بيروت عبر حرب عدوانية دموية تواصلت على مدى ثلاثة أشهر. ورداً على المبادرة العربية التي تبنتها قمة بيروت عام 2002 أقدم شارون على استباحة المدن الفلسطينية، بما فيها مقر المقاطعة في رام الله دون أن تثنيه عن ذلك اتفاقيات أوسلو ووادي عربة. وهناك العديد من الأمثلة والأدلة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك في أن إبرام الأنظمة العربية معاهدات واتفاقات مع الكيان الإسرائيلي لم يردع قادته عن مواصلة نهجهم العدواني، ولم يدفعهم للتخلي عن احتلالهم للأراضي الفلسطينية والعربية، والموافقة على تسوية تلبي مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني وشقيقيه اللبناني والسوري.
في ظل هذه الأجواء تتحول التصريحات حول التمسك بالحقوق الفلسطينية والعربية في فلسطين الى مجرد ورقة توت لستر عورة اتفاقات تطبيع مشينة مع كيان الاحتلال الصهيوني.
من حق الشعب الفلسطيني، الذي يواجه أعتى وأبشع احتلال عرفته البشرية في تاريخها الحديث ويتصدى للسياسات الاجرامية التي تنتهجها الحكومة الأسوأ في تاريخ “إسرائيل” أن يقيّم الخطوة الإماراتية بأنها خذلان له، وبأنها تشجع إسرائيل على تنفيذ مخططاتها العدوانية التوسعية وتمكّنها من الاستفراد به وتصفية قضيته الوطنية.
ومن حق الشعوب العربية ومثقفيها وأوساط سياسية واجتماعية واسعة أن تقيّم هذه الخطوة الإماراتية على أنها تفتقر الى الحكمة تقتفي أثر السادات في إبرام الصفقات الانفرادية مع الكيان الإسرائيلي التي قوبلت ولا زالت تقابل برفض شعبي عربي واسع، وتتناقض مع مصالح الامارات ومحيطها العربي وتتماشى مع استحقاقات صفقة “ترامب” – نتنياهو” وتتعارض مع المبادرة العربية التي أقرت عام 2002 في قمة بيروت، التي قرنت التطبيع باذعان الكيان الصهيوني لقرارات الشرعية الدولية وبالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، والتسليم بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.
ومن حق جميع الحركات العالمية التي تنادي بمقاطعة إسرائيل اقتصادياً واكاديمياً لإجبارها على التراجع عن سياسة الاحتلال والضم والتهويد والاستيطان أن تشعر بالحرج الشديد وبتراجع قدرتها على حشد التأييد لحركة المقاطعة العالمية التي باتت تشكل مصدر أرق جدياً للصهاينة في إسرائيل والعالم والانتصار لعدالة القضية الفلسطينية.
وهكذا تكون الامارات وغيرها من أنظمة التطبيع العربية قد تخلت طواعية عن أحد أهم أسلحة الضغط على حكام إسرائيل، الذين باتوا يشعرون أن أياديهم طليقة في التصرف كما يحلو لهم في تكريس احتلالهم للأراضي الفلسطينية والعربية وطمس الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وللشعبين اللبناني والسوري اللذين لا زالت إسرائيل تحتل أجزاء من أراضيهما وتعمل على ضمها نهائياً، كما حصل في الجولان المحتل مؤخراً.
ومع كل ما تضفيه الخطوة الإماراتية من مخاطر وما ترتكبه من تبعات إلا ان التطبيع سيبقى محصوراً في اطار العلاقات والدوائر الرسمية، ولن يتغلغل في الوجدان الشعبي العربي، الذي عبر بأصدق وأقوى العبارات في البيانات العديدة الصادرة عن أحزاب سياسية ومنظمات ثقافية واجتماعية مقاومة للتطبيع عن رفضه للخطوة الإماراتية وادانته لها وتصميمه على مواصلة مقاومة التطبيع بأشكاله كافة مع الكيان الصهيوني الذي لن تغير أي إجراءات تطبيعية رسمية عربية وغير عربية من طبيعته العدوانية ونزعته للهيمنة والتوسع على حساب الشعوب العربية كافة.