المبالغة التي تعمد اليها الطغمة الحاكمة في الكيان الصهيوني عند الحديث عن المخاطر الخارجية التي تتهدد كيانها المحتل والعنصري، سواء تعلق الامر بالقدرات النووية الإيرانية او بالصواريخ الدقيقة التي بات يمتلكها حزب الله في لبنان، او بالقدرات العسكرية المتنامية لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة المحاصرة، تهدف، في جزء رئيس منها، للتعمية على التناقضات والمشكلات الاجتماعية الحادة التي تتفاعل في المجتمع الصهيوني، والتي مهما حاول قادة إسرائيل اخفائها، أيضا، تحت ستار سحب دخان كثيفة من التحريض العنصري، وإشاعة أجواء من الكراهية ضد الجماهير العربية والشعب الفلسطيني باسره، كما الشعوب العربية، الا انها اتساع نطاقها، وحدتها يجعلها تطفو على السطح بحيث تصبح محاولات اخفائها وطمسها عديمة الجدوى.
إن انفجار هذه المشكلات الاجتماعية، ومنها اتساع نطاق ظاهرة الاتجار بالبشر، التي وصفتها هيلا شمير، الكاتبة والبروفيسورة في كلية الحقوق بجامعة “تل أبيب” في مقالة نشرتها في صحيفة “معاريف” بـ “ظاهرة العبودية العصرية”، وتشغيل العمال الأجانب الرجال والنساء في ظروف قاسية، تهبط الى ما دون الحد الأدنى من معايير العمل الدولية، تدحض الفكرة التي دأبت “إسرائيل” في الترويج لها عن نفسها، بأنها “واحة الديمقراطية في صحراء الاستبداد العربية”، وبأنها “دولة الخلاص والرفاهية لجميع يهود العالم”، وبأنها الوحيدة في المنطقة التي تستلهم قيم الحضارة الغربية وتطبقها على أرض الواقع.
وقد كشف تقرير حديث نشره موقع “زمن إسرائيل” وترجمه موقع “عربي 21” تجنب الحديث عن مظاهر الاستغلال القاسي الذي يتعرض له العمال الفلسطينيون في سوق العمل الإسرائيلي، واقتصر الحديث فيه عن معاناة العمالة الأجنبية، عن توفر العديد من الشهادات التي تشير الى اجبار العشرات من العاملات الأجنبيات اللواتي وصلن الى “إسرائيل” قبل نحو عام على العمل على مدار الساعة، دون فترات راحة وإجازات، مع تعرضهن للإذلال والجوع، أسفر عن فقدانهن الكثير من أوزانهن، ولم يُسمح لهن بإغلاق غرفهن”، بالرغم من حصولهن على تصاريح عمل.
وتضمن التقرير شهادات حية لمحاميات يهوديات أشرن الى تعرض عاملات مهاجرات للتحرش الجنسي من قبل أرباب عملهن الإسرائيليين، واعتبرن ان الحديث عن الجرائم الجنسية لأصحاب العمل الإسرائيليين بات أمرا مخزيا، وأن ظروف العمال الأجانب في إسرائيل تعتبر منصة ملائمة لظروف العبودية، وكورونا جعل ظروفهم أكثر صعوبة. وجاء في حديثهن أيضا أن الأمر يبدأ بالعمولات المرتفعة التي يدفعها العمال لأصحاب العمل مقابل العمل هنا، فالعمل هو ستة أيام في الأسبوع، و24 ساعة في اليوم، وأحياناً يُطلب من الممرضين عدم مغادرة منازل المرضى ودور رعاية المسنين حتى في يوم الإجازة”.
ويورد التقرير شواهد عن تعرض العمال الأجانب لعملية خداع متعمدة من قبل ارباب العمل الصهاينة، حيث يتفاجؤوا لدى وصولهم الى “إسرائيل” ان قطاعات العمل التي بانتظارهم غير تلك التي تم تثبيتها في عقود العمل الموقعة معهم، مما يجعلهم عرضة للابتزاز ويضطرهم لقبول العمل في أي مجال وفي ظل ظروف عمل شديدة القسوة. فالممرضات اللواتي قدمن لمكافحة وباء كورونا أصبحن، على حد تعبير الدكتور عدنان أبو عامر الذي عكف على ترجمة التقرير، إماء، وكذلك الرجال الذين يأتون للعمل في قطاع البناء باتوا محتجزون في ظروف عبودية، ويقيمون في ملاجئ لضحايا الاتجار بالبشر.
ومع أن ظاهرة الاتجار بالبشر ظاهرة عالمية، الا ما يميز الكيان الصهيوني العنصري أنه دأب على انكار تحولها من مجرد حالة فردية الى ظاهرة، آخذة في الاتساع. فإحدى المحاميات الاسرائيليات أشارت في هذا الصدد الى تلقي المنظمة التي تعمل فيها العديد من الشكاوى من العمال الذين تم توظيفهم في ظروف يرثى لها في إسرائيل. وأفادت بأنه حين يتم الاتصال بالشرطة لمتابعة قضايا الاتجار بالبشر فهي لا تلقي لنا بالاً، رغم أننا نتعامل مع عمال انهاروا جسديًا نتيجة لساعات العمل المتعددة، والظروف الصعبة، والمعيشية السيئة، حتى نصل إلى نقطة تتزايد فيها الجرائم”.
وكشفت هذه المحامية أن “إسرائيل لديها اليوم ثلاثة أنواع من ظاهرة الاتجار بالبشر والعبودية، أولها النساء العاملات في مجال الدعارة، وثانيها العمال المهاجرون القادمون من دول أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، وثالثها طالبو اللجوء من أفريقيا، خاصة من إثيوبيا والسودان وإريتريا، الذين يتم اختطافهم في سيناء، والمطالبة مقابلهم بدفع فدية، ويتم احتجازهم وتعرضهم للتعذيب الجسدي والجنسي والعقلي”.
وفي ذات السياق تؤكد البروفيسورة هيلا شمير في مقالتها بأن مساعي الحكومة الاسرائيلية ضئيلة فيما يتعلق بمحاربة الاتجار بالبشر، وتشغيلهم في ظروفٍ تصل إلى العبودية، “والدليل على ذلك، تكليف شرطية واحدة، في شرطة “إسرائيل” برصد ضحايا الاتجار بالبشر، في حين لم يحكم القضاء الإسرائيلي منذ عام 2006م، إلا بإدانة شخصٍ واحد، بتشغيل عمال في ظروف عبودية”.
وتضيف أن تجاهل سلطات إنفاذ القانون لظاهرة الاتجار بالبشر، يترافق مع تخلي النقابات العمالية عن دورها المفترض في هذه الإطار. وتؤكد أن “في العالم ثمة تفهم متعاظم لمسؤولية النقابات الكبرى في مواجهة استغلال العمال، يتجلى في تشريع قوانين وإصدار قرارات قضائية، لكن هذا الفهم في “إسرائيل” لم يتسع نطاقه بعد”.