تتطلع تركيا لحل مشكلاتها الاقتصادية والمالية المتفاقمة على حساب توسيع مجالات نفوذها وسيطرتها خارج حدودها البرية ومياهها الإقليمية. وفي هذا السياق يجوز لنا أن نقيّم الإشارات الصادرة عن مصادر رفيعة المستوى في تركيا والتي تم نشرها أو التعبير عنها مؤخراً. فليس صدفة على الأطراف أن يتم نشر خريطة “تركيا الكبرى” التي تعود لحقبة السلاجقة قبل نحو ألف عام، والتي تشتمل على الثلث الشمالي من سوريا وجزء كبير من مساحة العراق، وكذلك من جورجيا، وتضم كلا من أرمينيا ونصف بلغاريا والشمال اليوناني والجزر الشرقية من بحر ايجه وقبرص. ومن اللافت أيضاً أن يتم نشر هذه الخريطة مع قيام الدوائر العسكرية التركية بإجراء نقاش حول “الوطن الأزرق” الذي لخص وزير الدفاع خلوصي أكار جوهره بأنه يستهدف فرض السيطرة التركية على البحار المحيطة. مثل البحر الأسود وبحر ايجه والبحر المتوسط!.
وقد خطت تركيا خطوة عملية في إطار تنفيذ هذه السيناريوهات أو بعضها، بالشروع في عمليات التنقيب عن الغاز في منطقة شرق المتوسط وارسال حفاراتها الى تلك المنطقة، الى جانب الإعلان عن عزمها التنقيب في المنطقة التابعة لقبرص، متذرعة باتفاقية مع جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها الاّ من تركيا، استغلتها للتنقيب بدعوى الحفاظ على حقوقها وحقوق قبرص التركية في منطقة تعوم على بحر غاز طبيعي هو ثاني أكبر مخزون من الاحتياطي على مستوى العالم.
لقد ساهم اكتشاف هذه الحقول في شرق المتوسط خلال السنوات الأخيرة في تأجيج طموحات الدول المطلة وأثار توتراً بين أنقرة وأثينا العنصرين في حلف شمال الأطلسي اللذين تدور بينهما خلافات قديمة.
والسؤال الذي يبرز في هذا الإطار، هل ستتحول التوترات التي تتفاقم بين تركيا واليونان الى مواجهة عسكرية مباشرة، والى أي حد سيمضي الطرفان في التشدد والتصعيد؟
وهناك مراقبون يلفتون الانتباه الى إمكانية أن يتحول أي خطأ في التقديرات يرتكبه أي من الطرفين الى صراع شامل والى حرب غير متوقعة.
هذا وقد تفاقم الخلاف اليوناني – التركي بعد قيام أنقرة بإرسال سفينة أبحاث بمرافقة سفن حربية الى منطقة متنازع عليها بين قبرص وجزيرة كريت اليونانية. وردت اليونان بإرسال وحدات عسكرية برية وجوية للمراقبة واجراء مناورات عسكرية مع قبرص وفرنسا في المنطقة، مما زاد من خطر المواجهة بين الطرفين.
وقد ارتفع منسوب التوتر بين اليونان وتركيا بعد التقرير الذي نشرته مجلة دي فليت الألمانية والذي جاء فيه أن الرئيس التركي أوعز الى جنرالاته بإغراق سفينة يونانية، لجر اليونان الى نزاع عسكري.
ومع أنه من الصعب التحقق من صحة التقرير، الا أنه من غير المستبعد أن مبالغة الرئيس التركي في تقدير قوته، وامكاناته قد تدفعه لإيصال الوضع في هذه المنطقة المتنازع عليها على حافة الهاوية في محاولة منه تهدف للخروج من المأزق الذي يجد النظام التركي نفسه غارقاً فيه، لا سيما جراء الانهيار الذي يعصف بالاقتصاد التركي، ناهيك عن تصاعد الضغوط الداخلية من قبل المعارضة وتهديده بفقدان منصبه نتيجة تناقص شعبيته.
ولم يبق الصراع محصوراً بين تركيا واليونان، فقد دخلت فرنسا على خط هذا الصراع منحازة الى جانب اليونان، وهو ما أدى الى تنامي التوتر في العلاقة بين باريس وأنقرة الناجم أصلاً عن تدخل تركيا في ليبيا وعن القلق من قيام تركيا بأعمال استكشاف أحادية عن الغاز في منطقة تؤكد أثينا، وتوافقها الرأي باريس، أنها ضمن سيادتها.
ومنذ بضعة أسابيع يكاد لا يمضي يوم، دون أن تصدر عن كبار المسؤولين الأتراك والفرنسيين تصريحات بنبرات حادة من الطرفين تسبغ على العلاقات بين البلدين مزيداً من التوتر، وتفتح النزاع في شرق المتوسط على احتمالات خطرة، منها حدوث مواجهة أو صدام عسكري محدود قد يصعب تطويقه في ضوء حالة الشحن المتبادلة بين الأطراف المنخرطة في الصراع، والتي لم تهدأ رغم الجهود التي يبذلها حلف الأطلسي – والاتحاد الأوروبي وروسيا لخوض حدة التوتر بين الدولتين العضوين في حلف الأطلسي.
ففي حين تصر اليونان ومعها فرنسا على أن أي حوار مع تركيا يجب أن يسبقه وقف عمليات التنقيب، صعّد الرئيس التركي من لهجة التحدي بالقول “سيدركون – يقصد اليونانيون والفرنسيون – أن تركيا تملك القوة السياسية والاقتصادية لتمزيق الخرائط والوثائق المجحفة التي تفرض عليها – في إشارة الى المناطق المتنازع عليها بين تركيا واليونان.
وفي حين يحظى الموقف اليوناني – التركي بتأييد الولايات المتحدة وحلف الأطلسي عموماً، فان الموقف التركي يواجه بانتقادات واسعة، داخلية وخارجية.
فقد أعرب رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داود اوغلو، صاحب نظرية “صفر مشاكل” والذي أصبح أحد أبرز المنافسين لطموحات الرئيس التركي، إن النهج الذي يتبعه أردوغان ينطوي على مجازفات شديدة، وأضاف “للأسف فان حكومتنا لا تقدم أداءً دبلوماسياً لائقاً. وقد دعا أوغلو حكومة بلاده الى الجلوس مع اليونان لمناقشة كل الأمور ووقف تصعيد التوتر.
ومهما حاول كل طرف من أطراف الصراع المحتدم في منطقة شرق المتوسط تغليف مواقفه والدفاع عن مصالح “وطنية” يعتقد أنها “مشروعة” وتنسجم مع أحكام القانون الدولي، إلا أن الأمر في حقيقته وجوهره ما هو إلا مزاحمة جارية بين الطبقتين البورجوازيتين لليونان وتركيا حول مَن منهما سيتحكم في “عقدة” الطاقة وفي طرق نقلها. كما ان الصراع يجري، بصورة أساسية حول الاستحواذ على أكبر قدر من الثروات الغازية المكتشفة حديثاً أو التي ستكتشف في المستقبل وهو جزء من صراع أشمل يجري بين الطبقات البورجوازية والاحتكارية النفطية – الغازية والتحالفات الامبريالية.